بيان مجلس شورى العدل والإحسان والأبعاد الإستراتيجية الممكنة..

الوطن 24/ بقلم: عبد القادر الدحمني
لا شك أن انعقاد مجلس شورى أكبر جماعة إسلامية في المغرب في هذه الظرفية التي يعيشها البلد (خلال يومي السبت والأحد 02-03 رجب من سنة 1440 الموافق ل09-10 مارس 2019)، وتعيشها الجماعة في علاقتها مع النظام السياسي الذي يمعن في محاولات ترسيخ منعها وحصارها، وتحجيم إشعاعها الأخلاقي والسياسي، يحمل أبعادا مهمة للغاية، وجب الوقوف عليها، وعدم التعاطي معها بالعقلية الصحفية السريعة، الباحثة عن الفرقعات الإعلامية المتجددة، خاصة وأن المجلس انعقد في ظل في جوّ سياسي منحبس تعاني منه الحياة السياسية المغربية، وفي ظل أجواء إقليمية تتململ من جديد لصالح الشعوب، رغم استماتة الخيارات الاستبدادية المدعومة من الخارج في البلدان العربية في تقوية هياكلها وتجديدها من أجل ربح مساحات عامة جديدة، استباقا لأية موجات شعبية تعيد لإرادة الشعوب مكانتها وتؤسس لتداول سياسي ديمقراطي في هذا البلد العربي أو ذاك.
وسنركز في هذا المقال على البيان الذي أصدره المجلس يوم الأحد 10 مارس 2019، في ختام أشغاله الذي دامت ليومين. فماذا وراء بيان مجلس شورى جماعة العدل والإحسان؟ وأي جديد يمكن التقاطه من لغة البيان أو سياقه أو بنيته الدلالية والرمزية العامة؟
خط مؤسساتي استراتيجي
لقد كان المجلس مخصصا – حسب نص البيان المقتضب- “للوقوف على الأداء العام لمؤسسات الجماعة والتداول في التقارير التي ترصد إنجازاتها ووتيرة سيرها وطبيعة العقبات التي تعترضها”، كما تم تخصيص “جزء من برنامج اللقاء، أيضا، للمناقشة والتصديق على مقترحات تعديلات في بنود بعض القوانين الداخلية” و”تدارس المجلس ورقة حول دور الطليعة القدوة وما ينبغي أن تشع به من معان إيمانية وجهادية في صفوف الجماعة”، وبنظرة سريعة على محاور البرنامج المشار إليه يفيد بأنه برنامج عادي لدورة عادية، لمؤسسة منشغلة بأولوياتها، وتعمل وفق تخطيطها الاستراتيجي بعيد المدى، دون أن تجعلها بعض الأحداث، أو ردود الأفعال، تنزلق إلى الانشغال باليومي المتفلّت، أو تغرق في مطاردة الأحداث، وتصير حركتها مجرد رد فعل أو محض هزات ارتدادية إزاء فعل خارجي، خاصة ونحن نتحدث عن أعلى هيئة استشارية وتقريرية جامعة في الجماعة، وهو ما يفيد بأن برنامج الجماعة ومخططها نافد ولا ينبغي أن يتأثر بأية عوامل جانبية، أو تعيقه بعض الظروف، فتختلط لديه الأولويات، أو يتيه عن البوصلة الإستراتيجية الراسخة.
والملاحظ أن بيان مجلس الشورى تضمن سبعةَ عناصر في سبع عارضات، تضمنت العارضة الأولى عبارة شكر، تلتها العارضة الثانية مُفتَتَحةً بعبارة “التنديد” التي تكررت في العارضة الرابعة والسادسة، بينما تكررت عبارة “دعوة” مرتين، في العارضة الخامسة والسابعة، في حين خُصِّصَتْ العارضة الثالثة بعابرة “تسجيل”.
ولا يخفى أن العبارات الطاغية في هذا العارضات، هما عبارتا: التنديد والدعوة، ذلك أنهما محورا العملية في النهاية، إذ هناك دعوة، تسعى بنورها وحجتها، بالسبل الشرعية والقانونية، وهناك، في المقابل، حصار لهذه الدعوة وقمع ومنع، في ظل تسلط يطال المجتمع بصفة عامة، وبالتالي، كان التأكيد على “الدعوة”، متعلق باستمرار الفعل الاستراتيجي، وكان “التنديد”، معركة ضرورية لإزاحة العقبات ودفع أشكال الضرب والتضييق الذي يطال هذه الدعوة.
لا بدّ من شكر..
لقد أكد البيان أن مجلس الشورى “يشكر” “كل أعضاء الجماعة وأنصارها ومحبيها”، كما يهنئهم “على ما يبذلون من جهود متواصلة لخدمة هذه الدعوة المباركة الساعية لربط العبد بربه والرقي بخلقه ومعاملاته”.
إن دلالة الشكر من جهة مجلس موقّر مثل مجلس الشورى، ليست قائمة على مجرد البروتوكول التواصلي الذي تحاول استدراكه بعض أدبيات الممارسة الإدارية الحديثة، بل نابع أساسا من اعتراف حقيقي وتقدير فعلي لجهود كافة أعضاء الجماعة، خاصة مع ما هو معلوم من الانضباط والمشاركة الفعالة لقواعد الجماعة في مختلف فعالياتها رغم ظروف الحصار المخزني، والتضييق الذي يطال تحركاتهم، وهو ما يجعل الأمر يأخذ بعدا تواصليا وتفاعليا مفاده أن الأعضاء هم محرك الجماعة، وجِماع قوتها في المحصّلة.
ولعل الإشارة إلى شكر “أنصار الجماعة ومحبيها” بالإضافة إلى الأعضاء، يوحي برغبة البيان في الامتنان للحاضنة الشعبية القوية التي تسند الجماعة، والتي تشكل موئلا استراتيجيا أراد البيان أن ينبه إليه، في إشارة إلى أن قوة الجماعة، عبارة عن دوائر متغلغلة في حضن الشعب، ولا يمكن بحال من الأحوال اختزالها في الأعضاء فقط.
تنظيم وطني ودعوة كونية
ويمكن هنا أن نقوم بمحاولة بسيطة لتفكيك المرتكزات التواصلية والاستراتيجية التي يقوم عليها البيان، حتى يظهر بجلاء ما يمكن أن يخبّئه الخطاب من أبعاد، من زاوية تفكيكية لا تدّعي التماهي مع يذهب إليه جاك ديريدا، ولكن من أجل محاولة تسليط الضوء على رؤية العدل والإحسان لحركية المجتمعات، والسيرورة التاريخية الممكنة، من حيث هي حركة مجتمعية، تمتلك مشروعا مجتمعيا طموحا، يلهم الآلاف من أبناء الأمة حتى خارج حدودها، رغم اختيار العدل والإحسان خيار التنظيم الوطني الملتزم بالعمل داخل حدود البلد، والتشدد في ذلك عبر اللاءات الشهيرة التي ترفعها الجماعة منذ تأسيسها: لا للعنف، لا للسرية، لا للارتباط بالخارج، وهو ما جعل الجماعة تختار تدبيرا فريدا، مكنها من الحفاظ على استقلاليتها، وجنبها مختلف أشكال التلاعب الدولي الذي قد تسببه التنظيمات العبارة للقارات، ولذلك تشدد الجماعة على وطنية تنظيمها، في حين يبقى الفكر غير قابل للتوطين الجغرافي، خاصة في بعده القيمي والتربوي، المتاح للإفادة منه والاستنارة برؤاه.
الجماعة صامدة وهي جزء من الشعب..
إن بيان مجلس الشورى وهو يدين “الهجمة المخزنية الجديدة والمتجددة التي استهدفت مؤخرا سبعة من بيوت أعضاء الجماعة بالاقتحام والإغلاق والتشميع ضدا على كل القوانين المحلية والدولية والأعراف والمواثيق العالمية”، لم يفته أن يضع هذه الهجمة المخزنية على الجماعة في سياق الهجوم العام على القوى الحية للشعب المغربي، وتضرر مختلف فئاته الاجتماعية من تسلط القبضة الأمنية وتكريس منطق القمع والاستبداد، ف”الانتهاكات المخزنية المتعددة الأوجه التي يعانيها منذ سنين طويلة كل منتسب للجماعة” تعانيها أيضا “فئات عريضة من بنات وأبناء هذا الوطن الحبيب”.
وهي الانتهاكات التي يفسّرها ويضاعفها إعلان النظام فشله التنموي وتخبطه السياسي ولذك سجل البيان “استمرارية فشل النظام في التعاطي الجاد مع المطالب الشعبية المشروعة وفي تحقيق تنمية فعلية، ومناهضة المطالب الشعبية بالقمع والتجاهل والإلهاء” فيما يبدو أنها مراقبة هادئة من طرف الجماعة لتطور الأوضاع، من موقع قوة وهدوء ولوعة وإشفاق، وليست مراقبة تحمل بعد النكاية ولا تسجيلا “عدميا” انتقاميا، بل تسجيلا مسؤولا من موقع اقتراحي ميداني راسخ.
ولذلك إختار البيان أن يؤكد على خيار الصمود في وجه المضايقات التي “لن تَفُتَّ في عضد دعوة “العدل والإحسان”، ولن تستطيع أن تزيحها “قيد أنملة عن الاستمرار في منهاجها وإصرارها على تبليغ رسالتها التربوية والدعوية، بالرحمة والحكمة النبوية، والوقوف إلى جانب قضايا شعبها وكذا حرصها على نيل كامل حقوقها بكل الطرق المشروعة”.
كما أن تماسك الرؤية الاستراتيجية للجماعة، جعلها تضع التدافع المجتمعي إزاء النظام، في سياق التدافع الحضاري الأشمل، بين قوى النكوص والاستبداد، وقوى النهوض والمشروعية، ولذلك أشار البيان إلى رأس حربة قوى القهر والجبر، بإدانته ل”الاعتداءات الصهيونية على القدس، وشجب مسار التطبيع الذي تنهجه أغلب الأنظمة العربية”.
وهو التنديد الذي لا ينبغي فصله عن التنديد بالهجوم “على أخلاق وقيم المجتمع المغربي” واستهدافها بالتمييع والتفسيخ”، ولهذا فالجماعة تعتبر المعركة الأخلاقية والقيمية ليست معركتها لوحدها، بل “المطلوب تظافر جهود العلماء والمربين والمفكرين وكل الصادقين من أجل إيقاف حملات التضليل وطمس الأصالة والهوية”، كما جاء في البيان، إذ أن موجة التسلط وإحكام طوق الاستعباد والاستبداد، لا تنفكّ عن إرادة ترسيخ الميوعة والتردّي الأخلاقي، والهجوم على هويات الشعوب وقيمها المتجذرة.
استراتيجة الدعوة: دعوة ودعوة..
أشار البيان إلى مستويين من “الدعوة” التي وجهها مجلس شورى العدل والإحسان:
أولا: دعوة ذات بعد كوني، موجهة إلى “العقلاء والفضلاء في العالم” بمضمون حقوقي قائم على ضرورة احترام الحريات ودعم الديمقراطية وعدم التستر على جرائم الاستبداد، وهي دعوة ذات أفق حضاري ورسالي، تواصلي مع مختلف الهيئات والفعاليات المناضلة في العالم من أجل مستقبل إنساني متعايش ومستقر ومتحاب، وهو بعد يبيّن أن العدل والإحسان تدرك جيدا أنها تعيش في زمن مفتوح، يشكّل فيه التواصل وصناعة الخطاب، والتأكيد المستمر على إزالة الَّلبس نشدانا للوضوح وتأكيدا على المبادئ، هو سبيل نضج دعوي وسياسي كبير، لا بد من توظيفه لخدمة رسالة الدعوة، خاصة في ظل حملات التشويه والتضليل وحرفة “صناعة” “الفزّاعات” التي تفلح فيها دول الاستبداد الشرقي إذا وجدت منصتا لها في بؤر العنصرية وهوى اليمين الغربي المتطرف ومن يقف وراءه من لوبيات لا تبتعد عن الأخطبوط الصهيوني العالمي في الغالب.
وهناك دعوة أخرى موجهة إلى الأمة ببعدها الوطني والإسلامي العام كذلك، تهم “النخب والفضلاء والدعاة والمفكرين”، عبر دعوتهم إلى “التنبه للمخاطر التي تحيط بالأمة، وخاصة مخطط تمزيق الدول وتفتيت المجتمعات عبر إثارة النزعات الطائفية والإثنية والمذهبية”، وهو الأمر الذي يفيد بضرورة التكتّل وأهمية تجميع مختلف قوى الأمة وفعالياتها الممانعة، وعدم الاستهانة بأحد، لأن ما ينتظر قوى النهوض والتجديد والمشروعية المجتمعية والقيمية كبير جدا، ويجب النظر إليه بعين استراتيجية، تستفيد من مجهود كل طرف، وتعمل على تجميع مختلف روافد الفعل الباني وتوجيهه لخدمة مستقبل الأمة وتأهلها لحمل رسالة الرحمة في العالمين.