تحت مجهر تحليل القرائن
الوطن24/ بقلم: محمد الشرقاوي
لستُ من هوّاة التشكيك الانفعالي دون التدليل بوقائع ملموسة، ولا ممن يُجارون نظرية المؤامرة على عواهنها، أو ميول من يسميهم عالم النفس الجماعي الفرنسي جوستاف لوبون “الجمهور النفسي” الذي “يمتلك وحدة ذهنية موحدة”، كما أورد في كتابه “سيكولوجيا الجماهير”، وهو ينبّه إلى أنّ “الجماهير دائماً غير عقلانية وهدامة، ودورها دائماً لا يكون في البناء إنما في الهدم.”
لكن، أعتبر نفسي كائنا بُرهانيا وعقلانيا. لكن لست أيضا ممّن يغضّون الطرف عندما تتكاثر بعض الأحداث والإشارات التي لا تبدو أنها تتحرك بشكل منطقي في مجموعها، وإن بدتْ محتملة في واقعيتها بوجودها الأحادي.
أتذكر منذ سنوات الطفولة إعجابي بشخصية الملازم كولومبو Columbo التي كان يتقمصها الممثل “بيتر فوك” في أحد المسلسلات الأمريكية. كان يتأمل أضلاع اللغز أو الألغاز في تفكيك الأحداث خلف الجريمة، ولا ينشغل بأي ضلع بعينه وبشكل مستقل عن الآخر، بل يجتهد في تركيب جميع الأضلاع الظاهرة والخفية ويتأملها بتريّث ورويّة قبل أن يباشر عملية التحليل والاستنتاج. ويمكن أن نسمي هذا الأسلوب تحليل القرائن أو تحليل الأدلة الظرفية Circumstantial Evidence، كما هو الحال في فقه القانون، وأدلة غير مستمدة من الملاحظة المباشرة لواقع قيد البحث.
لا يقتصر تحليل القرائن على مجال القانون، بل دخل أيضا مجال العلوم الاجتماعية والبحث العلمي في تجليات وأساليب بحث مشابهة. ومن أهم هذه الأساليب اعتماد الأدلة التناظرية Analogical Evidence عن طريق المقارنة مع ظاهرة معروفة أو استعارة شائعة. وتسلّط هذه المقارنات إضاءة أفضل على خط النقاش والجدل، وتسمح أيضًا للباحث باستخدام استعارة مفهومة جيدًا لشرح الهياكل الاجتماعية والوظائف التنظيمية، مثل مقارنة السياق والديناميات في مباراة نصف النهاية بين المغرب وفرنسا بالمباريات الخمس السابقة التي خاضها “الدراري” والركراكي ضد كرواتيا وبلجيكا وكندا وإسبانيا والبرتغال.
أقترح أن نقف بأعصاب بادرة وعقول منفتحة عند المنطقة الفاصلة بين منطق المؤامرة ومنطق القرائن الموجودة، وهي قرائن متنوعة بعضها مما جرى في أرض الملعب، والبعض الأخر ضمن السياق العام الذي غطى بظلاله على المباراة قبل انطلاقها. ثم نتأمل النقاط أو القرائن الثماني التالية:
1. ليست الإصابات والإرهاق الجسدي والضغط النفسي استثناء ينطبق على اللاّعبين المغاربة وحدهم، بل هو وضع حتمي بفعل تلاحق المباريات السابقة لكل لاعبي فرنسا وكرواتيا والأرجنتين. لكن، المعنويات والروح القتالية لدى اللاعبين المغاربة في مبارتي البرتغال وإسبانيا تراجعت خلال مباراة فرنسا، وكان من المفترض أن يحدث العكس، أن تزداد همتهم بحكم أن عددا منهم يلعبون في فرق فرنسية وليسو غرباء على التكتيك الفرنسي. وعلى خلاف الأسبوعين الأولين عندما كان الركراكي يمارس التخطيط بشكل مستقل، شهد الأسبوعان الثالث والرابع تدخلات بعض المتنفذين ممن أعطوا “محاضرات” و”وصايا” و”تنبيهات” إلى اللاعبين.
2. اتّسم أداء الفريق المغربي بزيادة الزخم والفعالية من مباراة كرواتيا حتى مباراة البرتغال. لكنه تقلص بشكل مفاجئ في مباراة فرنسا. والمثير أن نجم فريق الأرجنتين ميسي عبّر عن انشغاله بصعوبة التّباري مع المغرب أكثر من التّنافس مع فرنسا في مباراة النهاية لو انهزمت فرنسا، وهذا تأكيد آخر لعلوّ كعب الفريق المغربي مقارنة بنظيره الفرنسي.
3. تجاهل الحكم المكسيكي سيزار أرتورو راموس بالازويلوس (ومن خلفه طاقم المراقبة لدى الفيفا لسير التحكيم ووجود تقنية الفار VAR،) للتأكّد من حقيقة ما كان يمكن أن تكونا ضربتي جزاء لصالح المغرب، ناهيك عن أخطاء لاعبين فرنسين انقلبت إلى محاسبة للاعبين مغاربة وفق تقدير الحكم. وبدلا من أن تصدر الفيفا قرارها لتوضيح الموقف أو شدّ أذن الحكم غير المنصف، سارع رئيسها جاني إنفانتينو إلى إعلان أن “المغرب سيستضيف بطولة العالم للأندية” في فبراير المقبل. مثال جديد على سياسة تذويب الأزمة بهندسة خطاب جديد.
4. لا تستطيع الفيفا الدفاع عن “أحقية” موقف الحكم المكسيكي بتجاهل ضربتي جزاء للمغرب، ويبدو أنها عمدت إلى منطق إدارة الأزمة بهذه الهدية التي جاءت مفاجئة إلى المغرب. والمنطق يقول إن إعلان مكان استضافة بطولة العالم للأندية كان توقيته الطبيعي بعد أيام من نهاية مونديال قطر، وليس مباشرة غداة مباراة المغرب وفرنسا.
5. شهدت مشاركة المغرب في مونديال قطر تشجيعا رائعا من قبل مغاربة قطر ومغاربة الداخل ومغاربة الشتات. لكن ثمة استفهام يزداد الآن حول التشجيع الرسمي ورمزيته بين الحضور في مدرجات الملاعب في مباريات الدوري السادس عشر في الدوحة والغياب عن مباريات المغرب نفسه في دوري الثماني ودوري نصف النهاية. خلال مباراة المغرب وكندا، مشهد ثلاث شخصيات سياسية وأمنية واستخباراتية مغربية، إحداها هتفت وصفّرت نشوةً بأداء لاعبي المغرب، ولها الحق في تلك الحماسة التلقائية. لكن بعد خسارة المغرب، يتفرع الاستفهام إلى شطرين: هل كان الحضور آنذاك لغاية أخرى أو تسجيل نقاط معينة خارج التشجيع في سياق كرة القدم، وكيف أن الرباط لم تعد تهتم بالحضور لتشجيع فريقها المتقدم إلى مباراة نصف النهاية؟ بأقل تقدير، هو حدثٌ تاريخيٌ له قصب السبق بأول إنجاز مغربي وعربي وأفريقي في آن واحد!
6. قد يثير غياب أمير قطر عن مباراة المغرب وفرنسا، (وهو الذي لوّح بعلم المغرب وكان هو وأسرته متحمّسين لإمكانية وصول “أسود الأطلس” إلى الكأس)، بعض التأويلات. لكن المنطق السياسي والبروتوكول الدبلوماسي لا يقبلان أن يكون هو والرئيس الفرنسي في المنصة ذاتها: أمير يناصر فريقا، ورئيس يناصر آخر. ويعزى الغياب إلى حياد إيجابي بحكم وجود ضيف فرنسي في مدرجات الملعب. لكن المثير أن ينزل الرئيس الفرنسي ماكرون إلى غرفة الملابس للحديث إلى اللاعبين المغاربة ويخوض مع حكيمي لدقائق. الأمر الطبيعي هو أن يهنئ الرؤساء لاعبي دولهم، وليس لاعبي الدولة الخصم. كدتُ أرى في قسمات وجه ماكرون ملامح “نبي” جديد في الإنسانية الفرنسية العابرة للقارات.
7. ينبغي أن يبقى ما يُحسب على الرياضة في مجال الرياضة، وما يحسب على السياسة يسير في سكة منفصلة وحسب جدول زمني مختلف. غير أن خسارة المغرب أمام فرنسا أتت بربيع جديد ومفاجئ في العلاقات بين الرباط وباريس. بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة، تطير وزيرة الخارجية الفرنسية كاترين كولونا على جناح السرعة إلى الرباط لإعلان استئناف النشاط القنصلي وتقديم التأشيرات الفرنسية بطريقة عادية إلى المغاربة وسط أزمة دبلوماسية وخلافات عميقة منذ عدة أشهر. وفي جعبتها عروض أخرى للرباط يمكن استنباطها من بين السطور وهي تقول: “هناك إرادة مشتركة للذهاب معا والتطلع إلى المستقبل، وهذه الزيارة تعكس الإرادة المشتركة من أجل الذهاب إلى المستقبل، تحت توجيهات الملك محمد السادس والرئاسة الفرنسية.”
8. قد تكون الجمعة 16 ديسمبر في كتب التاريخ يوم “قيام سيدي قدر” من قبره ليحقق للرباط آمالها المنشودة وتسلّم ثلاث هدايا ثمينة في يوم واحد: 1) رئيس الفيفا في الدوحة يعلن تنظيم كأس العالم للأندية في المغرب، 2) وزيرة خارجية فرنسا في الرباط تعلن استئناف إصدار التأشيرات إلى المغاربة، و3) أيضا تؤكّد أن الإليزيه لن يغير موقفه من دعم مبادرة الحكم الذاتي.
تجسّد مباراة المغرب وفرنسا جدلية السّياق والديناميات، وليس من السهل الاعتداد بطرف أو تجاهل الآخر في تفسير النتيجة، وهل كان من حظ المغرب التأهل وربما التتويج في مباراة النهاية. لكنها جدلية تسمح على الأقل بتجميع عدة عناصر قريبة الصلة ببعضها بعضا. وتساعد هذه الثنائية بين السياق والديناميات أيضا في استشراف المآل في التقاطعات القائمة بين الرياضة والسياسة.