جدل الدين والسياسة
الوطن24/ بقلم: اديب أنور
تتغير المجتمعات البشرية بقدر ما تتشرب من جوانب المعرفة بموجبها ترتسم لديها مسارات جديدة في تعاطيها مع واقعها المعيشي وتطلعها المستقبلي وهنا تكمن أهمية المنتج الثقافي الذي ينبجس من قنوات التنوير المختلفة سواء الإعلامية والتربوية والتعليمية والفنية.
اعتقد ان الدور المحوري يقع على عاتق الفنون بشتى مستوياتها في تبسيط وتجسيد الفكر حتى يبلغ عمق الوعي المجتمعي؛ مع العلم انه لا بد من التمهيد لذلك بالدخول في مرحلة نقدية طويلة تغطي المساحة الثقافية والفكرية أفقيا (التاريخ الإنساني في تطوره المعرفي والإشكاليات التي عالجها العقل في ذلك السياق) واستخلاص ما يمكن أن يكون بقدر الواقع وتحدياته واستشرافا لغده ووسائله….. عند الشروع في هكذا تحول تقتضيه دورة الحضارة تبدأ المقاومة والصراع بين السائد والمولود الجديد على حد تعبير الفيلسوف”هيغل” فلا يسع المتطلعين لتغيير الأوضاع إلا المضي قدما في بناء القاعدة والأساس للأجيال اللاحقة.
سأنطلق من أهم المؤثرات في حياة الشعوب العربية والمغاربية وهو التراث الذي تغذت عليه حيث شكل المفهوم الديني باختلاف تأويلاته نواته المؤثرة طوال قرون مديدة ما جعله ينداح في اللاوعي الجمعي مؤثرا بعد ذلك في نمط الحياة وتفسير أحداثها!! عند الشروع في الحديث عن الدين كعنصر في مجرى الصيرورة التاريخية سنستحضر ما يسمى بفترة الصراع بين الكنيسة وطبقة تبنت النقد كأداة لخلخلت الوضع القائم آنذاك من سيطرة نموذج متشبع بمفاهيم دينية راديكالية تغطي الحياة الاجتماعية والسياسية شكلت عامل عرقلة التقدم في أوربا – وصراعات دموية تحت غطاء التكفير – باعتباره كرس أوضاع مجتمعية اتسمت بالظلم والطغيان والاستبداد والاستئثار بالثروة وقمع كل الأفكار والنظريات العلمية باعتبارها نقيضا لقيم إنسانية عززتها كل الدعوات الدينية: العدل والتسامح والأمانة والمساواة والعلم..
لم تصمد المؤسسة الدينية أمام التيار الجارف الذي بلور مسار جديد نتيجة جملة من الاحتجاجات(مارتن لوثر) اصطلح عليه الإصلاح الكنسي حول جملة من الممارسات المسيحية التي شكلت طقوسا خضع لها المجتمع باعتبارها مسلمات؛ لكن يبدو أن المجتمع كان مستعدا لبداية تحول سيكون إرهاص لكل التطورات التي عرفتها أوربا بعد ذلك. حافظ هذا الاحتجاج ضد الكنيسة على موقفه اللاهوتي حيث لم تكن القطيعة كلية بينه وبين الدين بل تجديد لموروث علا عليه غبار أهواء الملوك ورجال الدين، بيد انه لم يحتوي على نظرية سياسية تفرضها متطلبات الحياة ضمن واقع أصبح متطلعا ومتسائلا عن سبل جديدة لرؤية الحاضر والمستقبل.
لقد طلب من رجال الإصلاح رؤية حول أرائهم السياسية التي بقيت نابعة من مقدماتهما اللاهوتية: من خلال جدلية (مستوى الاستقامة التي يتطلبها الله من عباده والشر الذي نفعله وهو التعبير عن طبيعتنا البشرية الفاسدة ومسؤوليتنا)… وإذا لم يكن لسبب أخر سوى إن الكتاب المقدس يحتوي على كثرة من الآيات التي تهتم بالسياسة فانه يتضح لابد أن يكون ل”لوثر وكالفن” بوصفهما لاهوتيين انجلين نظرية سياسية يعرضان فيها تعاليم الإنجيل عن الحكومة والطاعة وغيرهما ويربطان ذلك بمشكلات اليوم…
خلاصة الفكر السياسي لدى ابرز رجال الإصلاح هؤلاء ينطلق من ازدواجية في موقف الإنسان أمام سلطة روحية يدرب بواسطتها على عبادة الإله وسلطة مدنية يتعلم بها الفرد على أداء الواجبات من حيث أننا مواطنين؛ فالنوع الأول يشير إلى حياة النفس بينما يتصل النوع الثاني بمسائل الحياة الراهنة: فإذا بنا أمام مملكتان روحية ودنيوية يجب عدم الخلط بينهما فالإيمان للأولى والعقل للثانية إذ تكمن الخطورة عندما تحاول السلطة الدنيوية إن تحكم الكنيسة أو المسجد وتملي ما يجب اعتقاده وتعلمه، أو إن البابا أو الإمام يحاول أن يؤكد كل سلطة دنيوية تنبع منه.
فخلط ما هو سياسي وديني معا مما يجب تجنبه والبعد عنه….. اعتقد أن العالم العربي يجب أن يحسم في مسالة هذا الخلط الناجم عن فرضية أن التوجه السياسي يجب ان يولد من رحم النصوص بسبب النظرة التي تحاول استنساخ التاريخ الوسيط دون مساءلته أو حتى تنقيته باعتباره المثل الأعلى متغافلة عن مقاصده في كون المسالة السياسية يجب ان تؤصل من خلال المصلحة والجهد العقلي ونتاج الأمم. في هذا المضمار حاول الدكتور سعد الدين العثماني في كتابه: “تصرفات الرسول بالإمامة” أن يبرز هذا المنحى في السياسة النبوية معززا ذلك بجملة من النقول والوقائع، مبتعدا عن وهم الخلط بين ما هو ديني علاقة الفرد بالله و ماهو دنيوي في علاقة الفرد بواقعه وتجدده ومتطلباته مانحا مجالا واسعا للإبداع، يتصل بمدى المعرفة والثقافة والإدراك الذي يتمتع به زعماء وشخصيات تطرح مشاريعها لتدبير المجال الدنيوي على وجه يضمن إحراز مكاسب لشعوبها.. في هذا السياق لا نغفل ظاهرة الإسلام الحركي باعتباره رؤية نابعة من تصورات في مسائل السياسة والحكم فهو ينطلق من النصوص(قران وسنة) إلى الواقع والحياة دون فهم طبيعتها ومجال تشغيلها ومقاصدها.
يجب أن يشيح الإسلام الحركي النظر في السياق السياسي عن حرفية النص وإبعاده والالتفات إلى مخزون القيم المختزل في التجربة الأولى(النبوية) التي أشاد بها اغلب الكتاب السياسيين كالعدل والأمانة والعلم والمسؤولية والشورى والكفاءة والمحاسبة…مع التخلص من نظرية المؤامرة وفكر الإقصاء للرؤى المتباينة معه بالوقوف عندها والانفتاح عليها وفتح قنوات حوار جادة تدفع نحو التكامل باعتبار إن النقص والخطأ هو من صميم طبيعة البشر… عندما نخلط بين ما هو ديني ودنيوي فإننا نتطلع في قضايا تدبير الواقع إلى المثالية باعتبار إنها من واجبات دينية غافلين ان الواقع له طبيعة تفرض نفسها تجعلنا نبدو بدائيين في تسيير أمور الحياة وفهمها فيتصادم الفكر المثالي بالواقعي..
يعتبر ابن خلدون ومكيافيلي أصحاب نظرية الواقعية من خلال فهم أعمق لطبيعة المجتمعات البشرية ما يجعل التصرفات السياسية تبدو لأصحاب الخلط منكر وغير مقبولة فيزيد تشبتهم بالمثال ظنا منهم إنهم ينصرون فكرة الدين!!! اخلص إلى أن الدين يجب أن يبقى في سياق روحي جواني وان عالم الأرض يجب أن يأخذ بعين الاعتبار تراكم المعرفة والواقعية والبراغماتية وإنهاء ما يعرف بعصر الحروب الدينية..