حين امتزجت رحمة السماء بعلم الأرض: قصة ولادة الأمل من جرعة أنسولين.

الوطن24/ بقلم: ذ. عبد الجبار الحرشي

قبل اكتشاف الأنسولين، كان تشخيص الإصابة بداء السكري من النوع الأول بمثابة حكم بالإعدام المؤجل. لم يكن الطب يملك في جعبته سوى خيار مؤلم وقاسٍ: حمية التجويع. كان الأطباء يفرضون على المرضى، وغالبيتهم من الأطفال، تقليل كميات الطعام إلى أدنى حد ممكن، في محاولة يائسة لضبط مستويات السكر في الدم. ورغم كل هذه التضحيات، نادرًا ما تجاوز أي منهم عامين إضافيين على قيد الحياة.

ثم حدث التحول الذي غيّر مجرى الطب والإنسانية معًا. في يناير من عام 1922، دخل الطبيب الكندي فريدريك بانتنغ إلى جناح مليء بالأطفال المصابين بالسكري، أغلبهم في غيبوبة وعلى شفا الموت. يحمل بين يديه ما بدا حينها وكأنه بارقة أمل أخير: مادة مستخرجة حديثًا من بنكرياس الأبقار، أُطلق عليها اسم “الأنسولين”. بدأ بحقن الأطفال واحدًا تلو الآخر، وبينما أنهى جرعة الطفل الأخير، كان أولهم قد بدأ يستعيد وعيه.

ما حدث لم يكن فقط استجابة طبية، بل معجزة بكل المقاييس. الغرفة التي كانت تغرق في صمت الموت تحولت في دقائق إلى مساحة مفعمة بالحياة. الصراخ الضعيف لأطفال عاد إليهم وعيهم بدا حينها أشبه بنشيد خلاص. من وجه شاحب يحتضر إلى ملامح عاد إليها الدم والأمل. لقد غيّر الأنسولين، ومعه بانتنغ وزميله بست، معادلة المرض والمصير.

الصورة الشهيرة التي توثق هذا التحول ما زالت تذهل من يراها لأول مرة: طفل واحد، وجهان، أحدهما قبل الأنسولين، مرسوم عليه شبح الموت، وآخر بعده وقد عاد إليه النور. إنها شهادة حية على أن العلم حين يُستلهم من رحم الرحمة، يصبح فعل حياة.

وصدق الله العظيم حين قال: “وما أوتيتم من العلم إلا قليلا”. ففي كل اكتشاف علمي، يكمن سر من أسرار الرحمة الإلهية التي وسعت كل شيء، حتى أضعف الخلايا في جسد طفل يحتضر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *