حين يتعسف الجابري على الوحي

الوطن 24/ بقلم: د. إدريس الكنبوري

الدكتور إدريس الكنبوري

قلنا سابقا إن محمد عابد الجابري دخل مجال “تفهيم” القرآن وهو لا يتوفر على العدة العلمية الكافية للتصدي لمهمة صعبة مثل هذه. وطبعا نحن لا نقلل من قيمة الرجل رحمه الله لكننا نسجل ملاحظاتنا على مقروءاتنا ونعتبر بأن لكل قضية أصحابها. في الجزء الأول من “فهم القرآن الحكيم” يقول ما يلي:”إن انبثاق “فهم القرآن الحكيم” في العقل يتطلب من “الجهد الذهني” ربما أكثر مما يتطلبه “انفجار القرآن الكريم” في القلب من “فراغ القلب””(لنلاحظ كثرة المعقوفات). فهو إذن يريد أن يدخل القرآن معولا على العقل وحده، ولكن القرآن لم يسلم نفسه أبدا إلى من عول على مجرد العقل في الفهم.

هذه البداية سوف تحكم على مهمة الجابري كلها بالفشل، وستجعل كتابه أشبه ما يكون بمقرر دراسي موجه إلى الناشئة، ليس فيه جديد وإنما محاولة جمع شتات التفاسير القديمة مع التعليق عليها، وسوف نعود إلى هذا لاحقا.

وبالرغم من أن الجابري رفض البيان والعرفان في”بنية العقل العربي” منتصرا للبرهان، وهي من أبشع إنجازاته، فإنه في “المدخل إلى القرآن الكريم” يعتبر القرآن “كتابا بيانيا” (243). وهذه مفارقة، إذ كيف لي أن أنتصر للبرهان ثم أسعى إلى الكتابة عن كتاب هو النموذج الأكبر للبيان؟ فهذا يعني أن الجابري كان بلا رؤية ولا منهج وإنما هو “كاتب” صحافي ينتقل بين الموضوعات محاولا أن يربط بينها بالقوة في إطار “مشروع” مزعوم. كيف؟

فشل الجابري فشلا ذريعا في أن يرى في القرآن أكثر من مجرد “البيان”، بمعنى أنه كتاب خال من “البرهان”. ويمكنني شخصيا أن أتقبل هذا الحكم لو كان الجابري من القرن العاشر مثلا، لكن أن يقول هذا الكلام مثقف من القرن العشرين حيث تطورت المعارف وفلسفات العقل والعلم وظهرت مستويات للعقلانبة وانفجرت الحداثة بعد ثلاثة قرون على “اكتشاف” العقل في أوروبا، فهذا أمر يثير الاستغراب حقا. هذا علاوة على أن فهمه للقرآن على أنه مجرد البيان دليل أزمة في العقل العربي فعلا.

هذه النتيجة طبيعية عند الجابري لأن المدخل كان مدخلا يفتقر إلى منهج دقيق كما قلنا. ففي كتاب” المدخل” يجعل الوحي نقيضا للمنطق، حيث يقول عن القرآن{إنه نص بياني من إنتاج الوحي لا من إنتاج المنطق}، وهذا ـ لعمري والله ـ من الكوارث العظمى، فكأن الوحي لا منطق فيه ولا عقل ولا نسق، وإنما الوحي فوضى وشتات من الآيات وأسباب نزول لا حكمة فيها، والحكمة المنطق، فلو أنه قال: من إنتاج الوحي لا من إنتاج البشر، لاستقام المعنى، ولكن أن يقول بأن الوحي مضاد للمنطق فهذه من السقطات الكبرى عند صاحب نقد العقل الذي يجب نقد عقله.