خــربشات ثــائـرة !

عقلانيا وإنسانيا، مفهوم “جبر الضرر”، أو بالأحرى “الأضرار” في مجال حقوق الإنسان، والتي من الصعب أن تجبر أهوالها أو تنسى مهما حاول الضحايا وأسرهم تجاوزها، يجب أن تحظى بالأولوية، قبل الإقدام على تسويات أخرى، فمآسي الضحايا الأحياء وعائلات الشهداء جسيمة وعميقة ويجب العمل على ترميمها والعناية بها ومساعدتهم على تجاوز الخسائر التي حالت دون تمتعهم بالحياة الأسرية الطبيعية.
إنه الاعتبار الذي جعل مجمل النقاشات تنصب أساسا على إعطاء الأولوية لإنصاف عائلات الضحايا ماديا ومعنويا ونفسيا. وبذلك، يبقى الحق في التعرف العلمي على الرفات وتحديد هوية القبور والخبرة الجينية مصنفا في المرتبة الثانية في أجندة المعنيين بالملفات الحقوقية العالقة. الزمن يمر بسرعة، والناس تموت وتموت، يموتون أحياء بسبب الأضرار المتراكمة التي لحقتهم، والمآسي التي انقضت عن مصائرهم بسبب الفقدان المروع. فما مر من العمر بعذاباته وآهاته يستوجب معالجة شمولية وإنصاف شاملة لا يسمح باستمرار التماهي مع حقوق المتضررين أو تأجيلها.
أما ما يتعلق بضحايا أهوال الماضي وعواقبها، فإن أسرهم وعائلاتهم المكلومة لم يتوقفوا ولن يتوقفوا عن معانقة أرواحهم الزكية والترحم عليها. أرواح شهدائنا الأبرار الطاهرة لم تغادر ساعات أيامنا وصلواتنا. وفي كل لحظة وحين، ذكراهم لا تفارق خوالجنا، فهم يسكنون في قلوبنا. لقد افتقدناهم في وقت كنا في أشد وأمس الحاجة إلى وجودهم ووجدانهم. فترات براءتنا منذ الطفولة والشباب مر دون رعايتهم وحنانهم. الحنين لقول كلمة “بابا” أو “زوجي” …. لم يفارقنا أبدا. نحن أبناء وزوجات الضحايا، نعرف ونعي جيدا ماذا يعني اليتم وغياب الأب المفاجئ بدون عودة والمصير المجهول ، وماذا يعني غياب السند والمعيل الوحيد للأسرة ، شربنا من مرارة العذاب وهم معتقلون في ظلمات السجن الملعون، وبتر جزء كبير من إنسانيتنا ووجودنا عندما صعقنا بخبر استشهادهم في ظروف غامضة .

فإذا كنا قد عشنا إحساسا فضيعا، فليس مسموحا اليوم بتاتا ركوب البعض منا على سلم الأولويات للتلاعب بأحقية ومشروعية المبادئ النبيلة للنضال الحقوقي والإنسانية الحقة. الإحساس بالآخر يجب أن يبقى ساميا بين أسر وعائلات الضحايا. إن ملامستنا لمحاولات تمرير بعض المواقف بنفحات ومشاعر الأنانية والانتهازية يؤلمنا كثيرا. مبدئيا، المطالب الحقوقية للأحياء لا تسمح بالمساومات والوساطات الانتهازية. العلاقة مع الدولة، كفاعل رئيسي في هذا الملف، يتطلب الوفاء والجدية ونصرة المصلحة المشتركة بمراعاة تامة لضحايا الآلام والمآسي التي لم تندمل بعد. جروحها ما زالت عميقة، وندوبها بارزة للعيان، ولا نحتاج من أجل الحد من تعميقها وتسويتها إلا لوسطاء النضال الحقوقي الصادقين. الخطط الشيطانية والتسويات المشبوهة مرفوضة بشكل قطعي. نحن في جوهر صفحات التاريخ الوطني المجيد وليس في مزابله.
فقد أدهشني ما قاله أحد الناجين من سجن العار والذل تازمامرت السيد الفاضل محمد الزموري وهو في حالة صحية حرجة : “أنا لا أريد شيئا، لا أريد التكفل بعلاجي ” بنبرة حزينة لما آل إليه هذا الملف الذي عمر طويلا وطاله النسيان ، قالها أثناء لقاءنا ضمن أعضاء لجنة الحوار مع بعض موظفي المجلس الوطني لحقوق الإنسان عندما أرادوا التأكيد على التكفل بعلاجه بعدما أغلق أمام الحاضرين جميع الأبواب وسدت في وجههم كل التسويات والحلول المنصفة ، فعائلات الشهداء والأحياء في حاجة للحصول على تقاعد كباقي موظفي الوظيفة العمومية الذين تمت تسوية وضعيتهم منذ زمن بعيد تبعا لمذكرة الوزير الأول آنذاك المرحوم عبد الرحمان اليوسفي، وبقي العسكريون يطوقون لتحقيق هذا المطلب المشروع. إنه الحق الذي سيضمن لهم العيش الكريم لما تبقى من حياتهم الذي بترت منها أحلى مراحلها ، مرحلة الشباب وفترات القوة، والطاقة، والعطاء….، أليس ذلك السجن الملعون هو سبب كل المشاكل الصحية والنفسية!!!؟ أليس من حق الأرامل وأبنائهن في معاش يصون كرامتهن وما عانوه”.

نرجوكم، نرجوكم يا رواد ومصادر القرار الرسمي والمدني ونتوسل إليكم: لا تسوقوا لحلول معاناتنا بدون إشراكنا، ولا تلمعوا صورتكم ولا تدروا مساحيق التجميل على تجربة أليمة وتاريخ أسود.
وأخيرا ، أختم هذا المقال ،بأن زوجات وأبناء ضحايا سنوات الجمر والرصاص ،لهم حقوق تحتاج لمن يعبر عنها بصدق وموضوعية تامتين ،كما تحتاج لإرادة ،حقيقية وقرار شجاع ،لاستكمال تسوية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان والعمل على طي هذه الصفحة الأليمة من تاريخ المغرب ، والحقبة المظلمة من سنوات الجمر والرصاص وحتى تكون عرسا وطنيا حقيقيا ذي صيت عالمي يسجل في تاريخ المغرب المجيد بحبر من ذهب .