رجال عظام عرفتهم (4): المرحوم الحاج الحسين برادة، القائد المؤسس للمقاومة والقائد المؤسس لجيش التحرير

الوطن 24/ بقلم: عبد الله لعماري (محامي وفاعل سياسي)

حينما كنت أتفحص في ذلك السلوك الراقي للفقيد، وما كان عليه من أخلاق، وما حازه من ضمير وطني صادق متعفف ومتجرد، وما بذله من مواقف صلبة وصامدة، قبل إستقلال البلاد في مرحلة الكفاح، وبعده في مرحلة البناء الوطني، كنت أجد لذلك جذرا وأصلا في تنشئته وتربيته، ففي سنه الرابعة من طفولته، وبعد يتمه من والدته الودغيرية النسب، تكفل برعايته زوج عمته، وهوالفقيه العالم الحاج محمد الحجوجي، والذي كانت له زاوية علم وتصوف في مدينة دمنات، يدرس فيها أحاديث الإمام البخاري، ويقيم فيها حفلا للختم من كل سنة، يحضره كبار علماء المغرب، وكان الرجل من أعلام الوطنية وشهدائها، إذ لما أرغمته سلطات الإستعمار وأذنابه على توقيع عريضة خلع الملك محمد الخامس، دعا الله دعوة أن يقبض روحه ولا يقع في هذا العمل الخياني الخسيس، ففاضت روحه من ليلته، دون أن يوقع العريضة المشؤومة ودون أن يمالئ الخونة على غدرهم. وفي هذه البيئة تشرب الطفل سقي الصدق والعلم في الدين والوطنية والإباء.
وفي يفاعة فتوته وعندما نزح إلى الدارالبيضاء، كان له شرف التلمذة والتوجيه على يد واحد من عظماء الوطنية وقادة كفاحها المرحوم بوشتى الجامعي، وكان له شرف الرفقة والصحبة مع سيد الشهداء المغاربة، وقائد العمل الفدائي محمد الزرقطوني.
هكذ نشأ الحاج الحسين برادة، وهكذا عاش مع الجيل الذهبي الفريد في تاريح الكفاح الوطني، الذي صدق رجاله ما عاهدوا الله عليه.
ولذلك حينما يتحدث كاتب أو باحث أو مؤرخ أو معجب عن هؤلا الأهرام في الكفاح والجهاد والوطنية، ففي ذلك الحديث عبرة وقيمة وغناء، ولكن أن تجالس هرما من أهرامها وأبطالها في مثل هالة المرحوم برادة، فتسمع لحديثه عن بطولات التحرير، ففي ذلك متعة الروح، ولذة الحياة، وبلسم النفس، بما تشتفي منه الذات التي تحن إلى جذرها وأصالتها، الأصالة التي نبتت في تربتها الأمة المغربية المتجددة، حينما إنبتقت حية، بفضل مثالية هؤلاء الرواد العظام والعمالقة الأبطال، الذين علموها التمرد على الأغلال، أغلال الإستعمار البغيض، وألهموها الإنتفاض على الأوهاق، أوهاق القهر والعبودية والإذلال، فنهضت متحدة على قلب رجل واحد، ملتفة حول منهج دقيق من دعامتين عظيمتين راسختين: الإستشهاد أو عودة المغرب إلى إستقلاله والملك الشرعي إلى بلاده وعرشه.
في رحلة الحكي القيم النبيل، الذي كانت تجود به ذاكرة الحاج الحسين برادة، وتفيض به سجيته، بالعرفان لأولي السبق والفضل بفضلهم، بمايثير الشجون والأشجان، ويزرع الحياة في أحداث ومراحل ومحطات، من تاريخ ماجد تليد لمغرب ناهض أبي، في هذا الحكي يستشعر السامع حقا لذة الإعتزاز بالإنتساب إلى الأمة المغربية العظيمة، التي أنجبت ذلك الرعيل الأول من رجالات الجهاد والكفاح الوطني، الذين حينما أعلنوا الكفاح المسلح في وجه الغاصب الفرنسي المقيت، المدجج بالسلاح والجبروت والعتو، لم تكن لهم من قوة، سوى أرواحهم، التي أودعوها أكفهم، وبضع رصاصات ومسدسات صدئة، ولكنهم كانوا جبالا شاهقة، معانقة إرادتهم للثريا في علياءها، بما كانو يملكونه من الهمم والمطامح الغالية، والصمود الأسطوري الراسخ، والعزم الفولاذي الثابت المصمم على قطع دابر الإستعمار ودحر وجوده.
وعلى درب القيادة الأولى الإستشهادية للمقاومة، تتالت أفواج الفدائيين الذين عطروا ثرى البلاد بدماءهم الزكية، شهداء تحدوا الموت الزؤام، ومعذبين صابرين، قهروا آلات التعذيب الوحشية لجلاوزة الإستعمار في السجون والمعتقلات، ومقاتلين أشاوس واجهوا جيوش التنكيل والبطش والغدر، بشهامة الأبطال، في الشوارع وفي الوهاد وفي الجبال، إلى أن مرغوا غطرسة البغي الإستعماري في أوحال الإنهزام والإنكسار.
واستقبلت الأمة الوليدة المتحررة، بعد المحن السوداء الأليمة، وطنها المنعتق من السلب والحجر والإستعمار، وسلطانها الملك الشرعي العائد من المنفى، عودته المظفرة الخالدة.
وماأحوج الأمة المغربية القاهرة للإستعمار، في عهد أجيالها الجديدة، إلى الإلتفاف حول تاريخها، ومآثر ملاحم أبطالها، الذين صنعوا وجودها بإبائهم وشموخهم وتضحياتهم الجسام.
فالأمة التي لاتعرف أبطالها ورموز كفاحها، ولاتقتفي آثارهم، ولا تنعش وجدانها وذاكرتها بالإحتفاء بمواقفهم وفدائيتهم، هي أمة ضائعة تائهة، مذبذبة ومترنحة، وآيلة إلى التساقط مرة أخرى فريسة بين أيادي الغاصبين الإستعماريين الجدد، لأنها تكون قد اختارت أن تضل طريقها وهويتها، ورضيت أن تبقى مبتوتة الصلة بأمجادها وقيم سؤددها ومثل كرامتها.
الرحمة والغفران لفقيد الوطنية الحاج الحسين برادة، والمجد والخلود لبطولات المجاهدين والشهداء.