في المغرب كما في العالم.. حين يُفقد الخبر سياقه وتُصنع الحقيقة على المقاس.

في عالم متقلب تزداد فيه التوترات وتتشابك فيه المصالح، لم تعد الأخبار مجرّد وقائع بريئة تنقل كما هي، بل أصبحت سلعة قابلة للتعديل والتحوير وفقاً لحسابات معقدة، يتحكم فيها من يملك أدوات التأثير والنفوذ. والمغرب، كغيره من دول العالم، يجد نفسه وسط دوامة من الأخبار المتدفقة والتأويلات المتعددة، التي تتطلب وعياً جماعياً وقدرة على التمييز بين المعلومة الصحيحة والخبر المفبرك.

لقد تغيّرت قواعد اللعبة الإعلامية بشكل جذري. فمع الانفجار الرقمي، وتحوّل العالم إلى قرية صغيرة، صار الخبر ينتقل في ثوانٍ، ويتفاعل معه الجمهور بشكل فوري، دون تمحيص أو تدقيق. وزادت خطورة المشهد مع تنامي النفوذ الخفي لما يُعرف بـ”لوبيات صناعة الرأي”، التي تروّج لرؤاها عبر اجتزاء المواقف وتضخيم العناوين وتحوير السياقات.

وإذا كان الإعلام التقليدي قد فقد الكثير من سلطته، فإن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت فضاءً فوضوياً يُشكّل الوعي، لكنه في الآن ذاته يُغذّي الانقسام والتشويه، من خلال ما يُعرف بـ”الاقتناص الانتقائي” للمواقف والتصريحات. وهي ظاهرة لم يعد المغرب في منأى عنها، حيث باتت شخصيات عمومية وسياسية تتعرض لحملات تشويه مدروسة، مبنية على اقتطاع أجزاء من كلامها لإخراجها عن سياقها الطبيعي.

من هذا المنطلق، تبرز أهمية المسؤولية الإعلامية، كقيمة أخلاقية لا يمكن فصلها عن مبدأ حرية التعبير. وهذا ما تسعى إليه بعض المنابر الجادة في المغرب، مثل “الوطن 24”، التي ترفع شعار المهنية والنزاهة، وتُدقق في مصادر الخبر، دون البحث عن الإثارة المجانية أو الانسياق خلف حملات الضغط الممنهجة.

وفي هذا السياق، تثار مؤخراً ضجة حول تصريحات السيد عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، والتي تم اقتطاعها من سياقها الكامل، وترويجها بشكل مجتزأ، بما يخدم نية الإساءة والتشهير. وهو أسلوب بات مألوفاً في الحروب الإعلامية الحديثة، حيث تُبتر الجمل، وتُحذف مقدماتها أو تذييلاتها، في محاولة لصناعة انطباع مُزيّف.

والخطير في الأمر، أن هذه الأساليب لا تستهدف فقط الأشخاص، بل تسيء للفضاء السياسي المغربي برمّته، وتضعف منسوب الثقة في النقاش العمومي. إذ كيف يمكن الحديث عن حوار وطني ناضج، في ظل تحريف متعمد للكلام، وطمس للنية الحقيقية خلف المواقف؟

إن ما يتعرض له بنكيران اليوم قد تعرض له آخرون قبله، وسيطال غيره ما لم يُرفع منسوب الوعي والمسؤولية، ويُحصن المتلقي المغربي بالأدوات الضرورية لفهم السياقات وتحليل الخطابات، عوض الاكتفاء بالاستهلاك السريع للمعلومة.

في زمن أصبح فيه كل فرد مُستهدَفاً ومؤثراً في آنٍ معاً، فإن أكبر سلاح في يد المواطن المغربي هو النقد الواعي والقراءة المتأنية وعدم الانجرار وراء العناوين الصادمة دون تمحيص. فالمعركة اليوم ليست فقط حول ما يُقال، بل حول كيف يُقال، ولأي غاية يُروّج له.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *