في تداولية الخطاب الطبيعي الحلقة “الأولى”

الوطن24/ بقلم: الكاتب محمد الهداج  

ربما كانت المنطقيات واللغويات المجال الأكثر خصوبة ونتائجا في الفكر الغربي المعاصر، كما أنها المعارف الأقرب إلى الثقافة العربية الإسلامية (التراث في الاصطلاح السائر!) ، فأول ما نظر فيه علماء المسلمين هو اللغة، ولم ينساقوا وراء صياغة نظريات ومذاهب قبل تمحيص اللغة، “حاملة” كل ذلك، وقد كان فهم خطاب الشارع  قصدهم ودافعهم لذلك، ومن ثم  بحثوا في خصائص العربية وأنواع الدلالة فيها، ولم يكن بحثهم لسانيا صرفا يبحث في اللغة من حيث هي نسق مغلق مكتف بذاته كما عند دوسوسير كما لم يبحثوا في الدلالة بتوسل مقولات في الدلالة عامة على طريقة التوليديين، ولكن بحثوا عن الدلالة في الاستعمال الجاري لها عند العرب، أي باصطلاح الغربيين، استحضروا البعد التداولي في دراسة اللغة، ذلك أنهم كانوا مدركين لواقع أن اللغة لا تحيا خارج الاستعمال، وكل خطاب هو كلام يتوجه به متكلم إلى مخاطَب، ومن ثم كان لزاما على أي نظر في الخطاب أن ينظر فيه من حيث افتراضه اجتماعا بشريا ومن ثم خلفية كاملة من القيم والأعراف، من جهة، ومن حيث استهدافه التبليغ والإقناع وتعديل السلوك، من جهة أخرى[1] .

وإذا كان التمييز اللساني “التقليدي” بين اللغة والكلام، قد انبنىابتداءا على تصور للكلام ينظر فيه “إبداعا” فرديا خالصا، فإن فلسفة اللغة مع فريجةوفيتجنشتين وبيرس   من بين آخرين، وكذلك التداوليات ومدارس تحليل الخطاب قد بينت أن ذلك ضرب من الوهم وأن كل خطاب طبيعي يحمل في ثناياه ملامح اجتماعيته، ولا أحد يستطيع ادعاء الصدور في القول عن غير جهة أو الحديث من منظور الشمول.

إن الذي يتكلم أو يكتب لا ينطلق من فراغ ولا يكلم فراغا وإنما يستعمل لغة يشاركه استعمالها غيره ويتوجه بها إليه، وهو بهذا محكوم في كتابته أو قوله بأمور نحصي منها:

– أن يقول ما يعتقده جالبا لاهتمام مخاطَبه.

– أن يقول ما يعتقد أن الآخر سيفهمه.

– أن يبني حجته بدلالة ما يتوقع من اعتراضات من غيره وما يظنه مشتركا من المعارف والمعتقدات بينه وبين هذا الغير.

إن الآخر من هذا المنظور حاضر في الخطاب لا كمخاطَب فقط، وإنما كطرف أساس في توليد المعنى وإنشاء الخطاب، هذا النوع من الحضور للآخر في الخطاب هو ما يحدد سمته الحوارية. وآية وجود هذه السمة في الخطاب هو آثارها الظاهرة فيه، ونحصي من هذه الآثار: الإضمار والاقتضاء والحجاج[2].

وسأفصل القول في كل واحدة منها لأنها الحاضر الغائب في الخطاب العربي المبشر بالحداثة: حاضرة لأنها من طبيعة أي خطاب طبيعي، وغائبة لأن أصحاب هذا الخطاب يحاولون جهدهم إخفاءها ليبدو الخطاب صادرا عن العقل المحض ومن ثم لتبرير كونية موضوع الدعوة وهو “الحداثة”.

2-1 الإضــــمـار

لا أحد يجادل في ملازمة الإضمار لكل خطاب طبيعي وذلك لأسباب تمتد بين حدي الاضطرار والإختيار ولدوافع تطال المعرفة والأخلاق.

لقد بينت المحاولات اللسانية المتعددة لتحديد تعريف جامع مانع لما هو المعنى الحرفي لجملة أو ملفوظ ما، أن الإضمار حاضر يطل برأسه حتى في الجمل والملفوظات الأكثر “بداهة” و”حرفية” و”منطوقية” من جهة دلالتها.

في معرض رد جون سيرل[3] على الرأي القائل بإمكان الحديث عن المعنى الحرفي أي ذاك الذي يمكن نسبته لجملة ما في “سياق منعدم” أي دون استحضار البعد التداولي للدلالة، يضرب مثلا بعبارة تبدو واضحة ويدعو إلى التأمل في دلالتها دون اشتراط أي سياق ومن ثم أي مضمر، والجملة هي :

( 1 )  “القطة فوق البساط

والذي سيدركه القارئ مقصودا بالجملة هو أن القطة تلقي بثقلها في وضعية ما على البساط (مستلقية أو واقفة …)، ولكن الجملة لا تحيل بمنطوقها حصرا ولا ضرورة على هذه المعنى، فقد تكون القطة معلقة في الهواء (كما في حكاية خرافية أو عرض للكراكيز) بحيث تفصلها مسافة قصيرة عن البساط وتبقى جملتنا (1) مناسبة للدلالة على هذا الوضع، كما قد تكون القطة ملامسة للبساط بجسمها دون أن تلقي بثقلها عليه (كأن تكون هي والبساط طائرين في الهواء) وفي هذه الوضع كذلك تبقى جملتنا مناسبة للتوصيف. ولكن ما يجعلنا “نختار” الدلالة الأولى هو ما ألفناه دلالة على الفوقية والذي يستحضر معرفتنا بالجاذبية، كما يستبعد الحالات البعيدة عن الحدس المباشر، أي المبني على المألوف. فإذن حتى في أكثر الجمل “نصية” يوجد مضمر يتكون من المألوف والمعروف والمناسب.

كما أن الإضمار ضروري في الحياة اليومية، فتصور لو كان عليك حين التوجه بالخطاب إلى عابر تريد أن تسأله عن مكان ما، أن تصرح “بكل” مضمرات المقام، ربما كان عليك أن تقول:

“إنني سأسألك وتوجهي لك بالخطاب يفترض أنك عاقل وحتى لا يطول بنا الحديث في تحديد مفهوم للعقل، سأقول بأنك قادر على استخلاص قصدي من منطوق الكلام كما أني أفترض أن بإمكانك الفهم عني لأنك تعرف لغتي، وقد استنتجت ذلك من لون سحنتك ولباسك، كما أنني لا أستبعد معرفتك بالمكان الذي أقصده كما أني أفترض فيك استعدادا لمساعدتي: سيدي أين يوجد مسجد السنة ؟! ”

والناظر جهة المعرفة يجد أن أي حقل من حقولها لابد فيه من “قدر” من الإضمار يطال الموافقة على آليات التوسل لنوع المعرفة المطلوبة، ولأهلية موضوعات هذه المعرفة للاعتبار، ولوجاهة كتابات بعض المتخصصين وأهليتها للاستئناس أو الاستشهاد منظورا إليها كسلطة مرجعية في هذا الحقل المخصوص.

كما يمكن تصنيف ما هو مضمر في الخطاب لا إراديا ضمن دائرة الاضطرار:

وهكذا عندما نرى عالم رياضيات من القرن الثامن عشر، يعتقد أن من المشروع، متى برهن على اتصال دالة، أن يتحدث عن دالتها المشتقة، يستنتج مؤرخ العلوم أن عند هذا الرياضي اعتقاد مضمرا في أن كل دالة متصلة هي قابلة للاشتقاق[4]. وكذلك، كلما حاول كاتب حل مشكلة قام بعرضها، بإمكان القارئ دائما أن يقرأ الافتراض المضمر والذي مفاده أن المشكلة تم طرحها بشكل سليم وأن الاصطلاح الذي استعمل في صياغتها يقدم توصيفا صحيحا لما عليه الحال. بشكل عام يمكن البحث في كل نص عن الانعكاس المضمر لمعتقدات عصر ما: أي أن النص لا يكون منسجما إلا بتكملته بهذه المعتقدات.[5]

إن المضمر “اللاإرادي” يغطي أكثر مما قد نعتقد لأول وهلة، وإن جزءا كبيرا مما يعتبر مهمة لتحليل الخطاب والإبيستمولوجيا كما لحقول معرفية أخرى، هو بالضبط نقل هذا المضمر من الكمون إلى الشهود، كما رأينا في مثال عالم الرياضيات. وإن نظرة سريعة في الخطاب السياسي والإعلامي المعاصر يلقي بعض الضوء على ذلك، فالاستعمال المعاصر لمصطلحات اقتصاد السوق في هذا الخطاب يحيل على اعتقاد مضمر في تماثل حقلي السياسة والاقتصاد، وأكثر من ذلك “يدفع” إلى دائرة المضمر بعيدا عن المساءلة والتشكيك، رؤية مفادها أن الممارسة السياسية محليا ودوليا لا علاقة لها (ولا ينبغي أن تكون لها علاقة بواقع تكريس هذا الخطاب) لا بقيم الصدق أوالعدالة أو غيرها ولا بنماذج التواصل أوالتفاهم أو ما يسمى بحوار الحضارات، ولنتأمل لبيان ذلك الأمثلة[6] التالية:

(1) إن تصريحات ديك تشيني (حول تقدم القاعدة إعلاميا على الولايات المتحدة) هي للاستهلاك المحلي.

(2) على حماس أن تقوم بتسويق رؤيتها السياسية في الغرب.

إن المثالين يفرغان كلا من التصريحات والرؤية من أي مضمون “تواصلي”[7] أو أخلاقي، لتبدو الصورة المضمرة للسياسة في هذا الخطاب في هيأة سوق كبيرة “يلعب” فيها الخطاب دور “البضاعة” المنذورة للاستهلاك حينا، وأداة للدعاية الإشهارية في غالب الأحيان[8].

 

[1]ومن غريب ما ابتليت به ثقافتنا القبول “الواسع” فيها لتقسيم الجابري أنواع الخطاب (أو الأنظمة المعرفية باصطلاحه) إلى بيان وبرهان وكأن بإمكان “الخطاب”(أي خطاب) أن ينسل من سياقه وتاريخه ثم يدل ويقنع مع ذلك.  لا خطاب يدل بغير خلفية ومشترك بين المتخاطبين، حتى المنطق الصوري يفترض مسلمات النسق. (بل حتى القبليات التي كان يُعتقد في صحتها خارج أي سياق كتحصيلات الحاصل لم يعد أمر صحتها القبلية محل إجماع بعد بحث ويلارد كواين الشهير: “Two Dogmas of Empiricism  ” (سبق ذكره)

[2]Implicite ، pressupose et argumentation .

[3]J.Searl : Expression and meaning  p 121.

[4]وهو اعتقاد خاطئ بالمناسبة

[5]O.Ducrot : Dire et ne pas dire. Hermann 1991. p13

[6]الأمثلة مأخوذة من قناة الجزيرة :المثال الأول بتاريخ 18 فبراير 2006 والثاني في 17 من نفس الشهر والسنة

[7]بما في ذلك  الحديث عن “صدق ” مضمون هذه  التصريحات أو تلك الرؤية من عدمه.

[8] كما أن نظرا في بعض التعابير في مجالات مختلفة يخفي معتقدات قد لا تكون حاضرة ضرورة في أذهان أصحابها، فالاستعمال المكثف لمقولة “المجتمع الدولي” وسياقاته تجعلنا نجزم أن تحييناتها، وخاصة في الخطاب السياسي العربي تحيل بالأساس على الولايات المتحدة وأوروبا، مع أن الدلالة الظاهرة للمصطلح تحيل على دول العالم!. كما أن المضمر في مسألة التسلح النووي هو أن  أمريكا وأوربا  راشدين بما يكفي ليكونا مستأمنين على هذا السلاح وغيرهما ليس أهلا لحمل هذه “الأمانة”.(روسيا والصين فلتة وخطأ تاريخي تتحمل الثورتين البلشفية والماوية جريرته).