قصة قصيرة.. أنا والبقرة في صباح ماطر

الوطن24/ بقلم: محي الدين الوكيلي

في يوم ليس كأيامنا هذه، كان الجو ممطرا كما اليوم، صحيح أنه آنذاك كانت التساقطات أكثر انتظاما، وأكثر غزارة، لكن بقدر ما أتمنى هطولها الآن وكل يوم بقدر ما كنت أتمنى أن تجف آنذاك ينابيع السماء التي كانت تسكب من مياهها ما لم يكن لي وأقراني طاقة به.

كان يوما من أيام سنة 1976، كنت في السنة الثانية من التعليم الابتدائي، ولم يتجاوز بعد سني السادسة. كنت أدرس في مجموعة مدارس زكوطة وكنت أتنقل ما بين دوار بن الشيهب عند خالتي وعزيب سيدي المهدي عند أخوالي، كان اليوم يوم أحد من أيام فصل الشتاء، وفصل الشتاء آنذاك ليس هو فصل الشتاء اليوم، كان المطر يكاد لا ينقطع أياما إن لم تكن أسابيعا، وظروف العيش في القرى لم تكن كما هي اليوم، لم يكن متاحا للجميع منازل تقي من غضب الطبيعة وهجوم السيول والظروف المعيشية لم تكن آنذاك ترتقي لمتطلبات الشتاء، لم يكن متاحا للجميع الحصول على ملابس دافئة وجوارب صوفية وأحذية مواتية. كنا نكتفي بما وجد معتمدين على تحمل أجسامنا وإن كانت نحيفة وصلابة معنوياتنا التي كانت تستمد قوتها من صلابة الصخور المحيطة بالقرية.

لم تكن خالتي تملك حيوانات كثيرة، بالكاد بقرة وحمارة وبضع دجاجات وكلب يصلح نباحه كمنبه أكثر من أن تعتمد عليه في الحراسة. بعد تناولنا طعام الفطور طلبت مني خالتي أن أسوق البقرة إلي البساتين المجاورة للمنزل كي تقتات مما جادت به الأرض من نباتات وأعشاب. تفاجأت بالأمر، فالمهمة عادة هي مهمة ابنة خالتي التي تكبرني بعض الشيء. شخصيا ولحدود هذا اليوم كنت فقط أرافقها كلما طلبت مني ذلك وكلما سنحت الفرصة. أما الآن، الأمر يختلف كثيرا. انشغال ابنة خالتي بأمور ثانية وضعني في موقف لا أحسد علية، ليس فقط لأن المطر كان يهطل بغزارة، وليس أيضا لان قساوة البرد تفوق بكثير قدرة اللباس الذي ألبسه في حمايتي وتدفئة جسدي النحيل، لكن بالأساس لأن محيط القرية كان مبعث خوف غير مفهوم لذي. ربما كان مصدر ذلك الحكايات التي كانت ترويها لي ابنة خالتي أمينة (التي كانت بمثابة الأخت الكبرى لي) أو أيضا لطبيعة هندسة القرية التي كانت عبارة عن منازل متناثرة هنا وهناك تفصل بينها بساتين الزيتون والتين. لم يكن بمقدوري أن أرفض، استسلمت لقدري وسقت البقرة حيث طلب مني أن أذهب بها، كان جسدي يرتعد من البرد والخوف، والأمطار تسمع دندنتها على الأشجار والنباتات كإيقاع “غرباوي” من إيقاعات “الهيت الخفيف”. بالمقابل كانت البقرة في أحسن ظروفها وأمتع لحظاتها، لأنها تحررت من القيد الذي كان يربط أقدامها وأيضا لكل الخيرات التي جادت بها الأرض أمامها. حاولت أن أرفع من معنوياتي وأطمئن نفسي، ليس هناك شيء يخيف، لا الإنس ولا الجن لهما مصلحة في الخروج في هذا الجو البارد المطير، كلما دبت الطمأنينة إلى نفسي كلما ذكرتني لسعات البرد أنها ليست نزهة مع بقرة خالتي الوحيدة وإنما هي لحظة من لحظات الزمن التي تمنى كل طفل أن يزيلها من شريط حياته البريئة. كان الوقت يمر طويلا علي، وكلما نظرت إلى البقرة تخيلت السعادة التي تنعم بها وهي تقظم بشراهة كل ما وجدت في طريقها من أعشاب. مضى الوقت وكأنه دهر، بدأت معنوياتي تنهار وبدأ القلق بدب إلى نفسي، حتى الطيور لم تكن تستطيع الشذي لتؤنس وحدتي، وحده الريح الذي كلما حرك الأشجار المحيطة بي كلما زاد من هلعي وخوفي، ثيابي أصبحت أكثر تبللا، وحذائي أصبح بركة صغيرة تسبح فيه أقدامي. في لحظة من اللحظات، خيل لي أنني أسمع حركة هناك، تسمرت في مكاني، كل حواسي في قمة الإستنفار مستعدة للتعامل مع أي خطر قد يظهر من هنا أو هناك، أو للدقة كنت منتبها حتى أستطيع أختيار الجهة التي سوف أطلق فيها ساقاي للريح هربا من الخطر المقبل، لحسن الحظ لم يكن سوى جحشا تائها ساقته أقدامه إلى هذا المكان. بعد أن هدأت وعاد إلي توازني، نظرت إلى رفيقتي البقرة، كانت لا تزال منهمكة في وليمتها، لم يكن باديا عليها لا الإهتمام بما يقع و لا أي رغبة في التوقف عن الأكل. عرفت حينها أن هاته المهمة المشؤومة لا يمكن أن تنتهي برضاء البقرة وتيقنت أيضا أنني لن أستطيع الصمود أكثر. رفعت عصاي في وجه البقرة التي بدى عليها نوع من الاندهاش، حاولت أن تعترض لكن ضربة خفيفة على ظهرها فهمت منها أن وقت العودة قد حان. ركبنا معا طريق العودة، وكلما اقتربت من المنزل كلما تبدد خوفي وعاد الهدوء إلى جسدي النحيف. وصلنا باب منزل خالتي، دخلت البقرة أولا وأنا من ورائها. كانت الجلبة التي أحدثناها كافية بلفت انتباه خالتي وأمينة، أطلت خالتي من مطبخها التقليدي “الكشينة”، كانت علامات الغضب بادية عليها:

– واش مشيتي تتسخر للقايد

من حدة صوتها وقسمات وجهها علمت أنني عدت قبل المدة المناسبة، نظرت إلى ابنة خالتي أمينة مستنجدا، لكن ابتسامتها الساخرة أفهمتني أنه لا مناص من العودة. جال بصري في جوانب المنزل فلم أجد أي حل سوى العودة إلى قدري المحتوم هذا اليوم، أنا والبقرة والأمطار الغزيرة ومخاوفي التي لم تزد إلا تكاثرا.