قضية الحريات الفردية … مقاربة مقاصدية (الحلقة الثانية)

الوطن 24/ بقلم: الدكتور عبد النور بزا
لا قتل للمرتد المسالم في القرآن
هذه القاعدة هي خلاصة ما يخرج به الناظر في قضية الردة وعلاقتها بمقصد حرية المعتقد في النص القرآني بالاستقراء التام؛ فبقدر ما نص على مقصد حرية الاعتقاد في آيات كثيرة منه كما سلف أعلاه؛ بقدر ما تحدث في آيات كثيرة أيضا عن قضية الردة والمرتدين باعتبارها ظاهرة شائعة في المجتمع النبوي، ولم يشر من قريب ولا من بعيد إلى قتل أي مرتد، على عكس ما دل عليه الاستقراء من عقوبات فيما يتعلق بباقي المخالفات الشرعية من قتل وزنى وسرقة وحرابة … إلخ. وفيما يلي جملة بأوضح النصوص القرآنية التي ورد فيها ذكر الردة ولم تنص على أي عقوبة دنيوية في حق أهلها. منها؛ قوله تعالى:
﴿وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.﴾ (البقرة: 217).
وقوله: ﴿كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ، إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ، أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.﴾ (آل عمران: 86-91).
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا.﴾ (النساء:137.)
وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.﴾ ( المائدة: 54.)
وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى؛ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُم.﴾ (محمد: 270.)
وقوله: ﴿وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ، وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ.﴾ (آل عمران: 72)
فكل هذه النصوص القرآنية -وغيرها- قاطعة بوجود المرتدين في المجتمع النبوي، وكلهم معروفون بسيماهم، ورسول الله عليه الصلاة والسلام كان في تواصل دعوي دائم معهم تذكيرا وإقناعا وترغيبا وترهيبا ومجادلة، وهو صاحب الإمامة السياسية، وبيده مقاليد الحكم القضائي بين الناس، ولم يعاقب أيا منهم بأية عقوبة دنيوية؛ بل تركهم وشأنهم جميعا إلى يوم الحساب؛ لينالوا جزاءهم باستقراء الكتاب العزيز. وبقي يتعامل معهم على أساس قاعدة التعايش السلمي المفعم بقيم البر والقسط ما داموا متعايشين مع المسلمين بسلام؛ كما في قوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.﴾ ( الممتحنة: 8، 9 ) فهذا مجمل القول في قضية الردة وانعدام قتل المرتدين في القرآن الكريم، وهو نفس ما تقرر في مجموع السنة أيضا، وفيما يلي بيانه مفصلا.