مسؤولية أوروبا في التصدي لجذور الهجرة غير النظامية.
الوطن24/ بقلم: ذ. سعيد الكحل.
شكّل التحريض العلني على الهجرة الجماعية، أو ما سمي بـ”الهروب الكبير” نحو سبتة المحتلة ومنها إلى أوروبا، حادثا غير عادي، على اعتبار أن عملية الهجرة غير الشرعية تكون سرية حتى تفلت من عيون الأمن وحراس الحدود. إلا أن الدعوة، هذه المرة، جاءت علانية في تحد سافر للدولة ولمؤسساتها الأمنية والقضائية، بغض النظر عن دوافعها والجهات الخارجية التي حبكت مؤامرتها. وإذا كانت الجهود الأمنية نجحت في إفشال المؤامرة وإحباط مخطط التسلل إلى داخل سبتة، إلا أن هذا النجاح لا يعني القضاء على الهجرة كفكرة وطموح لدى الشباب في كل القارة الإفريقية. ذلك أن مشكل الهجرة غير النظامية لا يتعلق فقط بالمغرب، وإنما يشمل الدول الإفريقية عامة. إذ شهدت السنوات الأخيرة تزايد أعداد المهاجرين السريين، بحيث تصدت، مثلا، السلطات المغربية خلال السنوات الخمس الأخيرة لحوالي 366 ألف محاولة للهجرة غير النظامية نحو أوروبا. ففي سنة 2023 وحدها تم اعتراض أكثر من 75 ألف مهاجر، وهو ما يمثل زيادة بنسبة 6 في المائة عن سنة 2022. والجدير بالذكر هنا هو أن هذه الأعداد من المهاجرين السريين الذين يرغبون في الهجرة نحو أوربا لا يشكلون سوى 20 في المائة، بينما 80 في المائة قررت الهجرة داخل إفريقيا، خصوصا نحو الكوت ديفوار، نيجيريا، جنوب إفريقيا.
سترتفع أعداد المهاجرين السريين باطراد في السنين المقبلة نظرا لتزايد أعداد السكان. إذ لا تزال إفريقيا تعرف أعلى نسبة في النمو السكاني من أي منطقة أخرى في العالم. بحيث تشير التقديرات إلى أنه من المتوقع أن يتضاعف عدد سكان إفريقيا من 1.2 مليار إلى 2.5 مليار نسمة في عام 2050؛ الأمر الذي يشكل تحديا حقيقيا أمام دول شمال إفريقيا، وعلى رأسها المغرب الذي تحول من دولة عبور إلى دولة استقرار. وتساهم مجموعة من العوامل الاقتصادية والسياسية والمناخية في الزيادة المطردة للمهاجرين الأفارقة الذين من المتوقع أن يصل عددهم إلى 11 أو 12 مليون شخص بحلول سنة 2050. فالحروب الأهلية والصراعات الإثنية وتمدد التنظيمات الإرهابية فضلا عن انعدام الأمن الغذائي بسبب الجفاف والاحتباس الحراري، إذ “يعاني حوالي 146 مليون شخص من انعدام حاد للأمن الغذائي، وهم بحاجة إلى مساعدة إنسانية طارئة” بحسب الصليب الأحمر والهلال الأحمر. عوامل لا يمكن للدول الإفريقية وحدها أن تواجهها والتغلب عليها.
مـســـؤولــيــة أوربـــا.
إن الأوضاع السياسية والاقتصادية التي توجد عليها الدول الإفريقية اليوم هي نتاج لقرون من النهب والاستغلال لثروات الدول الإفريقية من طرف الدول الأوربية التي استعمرت إفريقيا ولا تزال تنهب ثرواتها وتتحكم في مصير شعوبها. إذ لم تعمل الدول الاستعمارية على تطوير البنيات الإنتاجية وخلق دينامية اقتصادية لفائدة الشعوب الإفريقية. بل فرضت عليها اتفاقيات اقتصادية وعسكرية وتجارية تكرس سياسة النهب واستنزاف الثروات. فضلا عن الحدود بين الدول التي تركها الاستعمار، والتي هي سبب النزاعات المسلحة والتوترات الإقليمية. فقد سبق لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، فاوستين أركان، أن اتهم الدول الغربية، في مؤتمر الأمم المتحدة في الدوحة حول الدول الأقل نموا في العالم، بالإبقاء على حالة عدم الاستقرار السياسي من أجل نهب ثروات البلاد ومنع تنميتها. وقال إن بلاده كانت ضحية استهداف استراتيجي مرتبط بالموارد الطبيعية. ومن نتائج نهب الثروات الإفريقية أن من بين 54 دولة إفريقية، تعتبر23 منها ، وفق التقارير الدولية في موضوع التنمية، من أكثر دول العالم فقرا، وأن أزيد من 60 في المائة من بين سكان إفريقيا يعيشون حالة أدنى من مستوى الفقر المعتمد عالميا من المؤسسات التنموية. وما يزيد من تعقيد الوضعية الاقتصادية والمالية للدول الإفريقية، معضلة التهرب الضريبي من طرف الشركات العالمية المستغلة للمعادن، حيث تقدر المبالغ المنهوبة بأكثر من 100 مليار دولار سنويًا.
مسؤولية أوربا لا تقتصر على النهب والتفقير، بل تشمل كذلك عمليا ت اغتال الرؤساء الذين لا يخدمون مصالحها؛ إذ وصل عددهم إلى اثنين وعشرين رئيسا، منذ العام 1963 إلى 2016، فضلا عن الانقلابات العسكرية (أكثر من 200 عملية انقلاب عسكري بين 1960 و 2012). ومن مظاهر النهب مثلا، أن واحدا من كل ثلاثة مصابيح في فرنسا يضيء بفضل اليورانيوم النيجيري. في المقابل يعيش ما يقرب 90% من السكان النيجيريين من دون كهرباء. بالمناسبة، وأمام العجز الذي تواجهه دولة النيجر في مجال توفير الطاقة الكهربائية، قدم المغرب، في يوليوز 2024، محطة كاملة لإنتاج الكهرباء مكونة من 9 مولدات كهربائية بسعة 22,5 ميغاوات.
طالما ظلت أوربا أساسا، تتعامل مع إفريقيا بالعقلية الاستعمارية القائمة على نهب الثروات وإذكاء النزاعات، فإن ظاهرة الفقر والتهميش ستزداد اتساعا وتعقيدا. الأمر الذي سيجبر الملايين من المواطنين على الهجرة هربا من الفقر والحروب والإرهاب. مما سيجعل كل الإجراءات الأمنية التي تتخذها أوروبا تفشل في صد أمواج المهاجرين. لهذا، وقبل خروج الظاهرة عن السيطرة، على أوروبا تحمل كامل مسؤولياتها من خلال:
1 ـ بناء علاقات اقتصادية وتجارية قائمة على مبدأ رابح ـ رابح مع الدول الإفريقية.
2 ـ دعم الاستقرار السياسي بالتوقف عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول.
3 ـ تشجيع الديمقراطيات الناشئة ورفع اليد عن الشعوب لتقرر مصيرها بنفسها.
4 ـ دعم الدول التي تواجه الحركات الانفصالية أو الإرهابية وتأهيل جيوشها وتزويدها بالسلاح الضروري في حربها ضد الانفصال والإرهاب.
5 ـ منع وصول الأسلحة إلى المتمردين والمتطرفين والإرهابيين الذين باتوا يمتلكون أنواعا من الأسلحة لا تتوفر عليها الجيوش النظامية بعدد من الدول الإفريقية.
6 ـ تأهيل الساكنة وتدريبها على ممارسة الأنشطة المذرة للدخل، مما يساعدها على الاستقرار.
7 ـ تشجيع الاستثمارات المنتجة في إفريقيا لخلق بيئة اجتماعية مستقرة وقادرة على تلبية حاجياتها المادية.
8 ـ مساعدة الدول الإفريقية على مواجهة آثار الفقر والجفاف والاحتباس الحراري وداعيات التغير المناخي التي، حسب البنك الدولي، ستتسبب في نزوح حوالي 86 مليون شخص بحلول سنة 2050 في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء.
9 ـ التخلي عن سياسة “تصدير الحدود”، وعن مفهوم “دولة ثالثة آمنة” على الشكل الذي طرحته خطة رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، بترحيل المهاجرين إلى رواندا.
10 ـ دعم الدول التي هي بمثابة الحارس الذي يمنع المهاجرين السريين من الوصول إلى أوروبا، وفي مقدمتها المغرب الذي تكلفه حراسة حدوده (بطول 3500 كلم) من تسلل المهاجرين، 66 مليون درهم شهريا لتغطية أجور وتعويضات عناصر القوات العمومية التي تمثل 3 % من مجموع الموارد البشرية العاملة في القطاع، دون احتساب التكلفة المالية التي تتطلبها الخدمات الاجتماعية التي يوفرها المغرب للمهاجرين. وهذا مبلغ جد مكلف للخزينة العامة، فيما الدول الأوروبية لم تقدم سوى 500 مليون أورو خلال سبع سنوات (2014 ـ 2020). نفس المبلغ احتفظت به للفترة الممتدة بين 2021 و2027؛ أي ما يعادل 5.95 مليون أورو في الشهر.
وأيا كانت الجهود الأمنية، سواء من طرف الدول الأوروبية أو دول شمال إفريقيا، فإنها لن تنجح في التصدي للمحاولات المتزايدة للمهاجرين. فقد أفشلت السلطات المغربية، مثلا، في السنوات الخمس الأخيرة نحو 366 ألف محاولة للهجرة السرية نحو أوربا. وشهدت سنة 2023 زيادة بنسبة 6 في المائة مقارنة مع سنة 2022 التي تم فيها اعتراض أكثر من 75 ألف مهاجر.
لا شك أن إجراءات ترحيل المهاجرين إلى دولهم أو “دول ثالثة آمنة” قد تخفف من حدة المشكل مؤقتا لكن لن تنهيه خصوصا وأن أسباب الهجرة تزداد تعقيدا في الدول الأصلية خاصة جنوب الصحراء. أما الرهان على دول العبور لتكون بديلا لاستقرار المهاجرين، فهو رهان فاشل لاعتبارات كثيرة أهمها:
أ ـ إنها دول ذات اقتصادات فتية لا تستوعب العمالة المحلية فأحرى المهاجرين.
ب ـ إنها دول تعاني من نسبة نمو محدودة لا تتناسب مع طلبات الشغل.
ج ـ إنها دول تعاني من مشاكل البطالة والفقر، وإغراقها بالمهاجرين سيفجر حتما الأوضاع داخلها؛ الأمر الذي ستكون له تداعيات خطيرة على الأمن الإقليمي والأوروبي.
لهذا، ومن مصلحة أوروبا أن تغير سياستها في مجال الهجرة بتوجيه الدعم والاستثمار إلى دول المصدر لخلق شروط التنمية والاستقرار والعيش الكريم؛ فيتم، بذلك، التحكم في ظاهرة الهجرة وحماية الشباب من المخاطرة بأرواحهم (أعلنت المنظمة الدولية للهجرة، التابعة للأمم المتحدة أن ما لا يقل عن 8565 شخصا لقوا حتفهم على طرق الهجرة حول العالم في العام 2023).