هــــذيان الجــبــال والسحـــرة
الوطن 24/ شعر: سيف الرحبي
هذيان الجبال والسحرة
لقد ذهبوا بعيداً صوب أنفسهم
وذهبوا في الوحشة.
أيام تتلوها أيامٌ،
الديارُ تضمحلُ في عين عاشقها
والجبالُ عرين الذكرى
تفقسُ السنورُ بيوضها،
الأقرب إلى ألوان الرمال والصخور
من فرط ما ارتطمت بالأزلية.
ليس بيني وبينك
أيتها الساحرةُ الولودُ
إلا هذه الكثبانُ من الرمل
وهذه الأزمنةُ المكدّسةُ أمام بابي،
تقولين كلاماً لا أفهمه
وتقولين هذياناً، أفهمُه
بسرعة سقوط النيزك على رأسي.
أيامٌ تتلوها أيام،
ونحن نحدّقُ في هذا الوثن،
الممدّد على ارض الأنبياء
أسوقُ قطيعك بعصا الراعي
أمامي تبكي رغباتُك،
وتنفجرُ كأنها قاب قوسين أو أدنى
من القيامة.
نصالٌ تبرقُ في ليل
كأنما لم أكن عائداً من أسفارٍ سحيقة
حين ارتميتُ في ظلالك الثكلى.
هدأت جوارحي في اتساع المكان
كانت الأرضُ الضيّقةُ
وكان نحيبُ الراحلين
فهشّمت أعضائي بين مدُن شتى
ورأيتُ الزلازل تحت قدميّ
دوخةَ أرض ونشوةَ سماءٍ
غدراناً تحتلُها عصافير
وملائك ترتطمُ بسقف البسيطة
حتى يخالها الرائي، طيوراً كسيحة
تنقرُ فضلات البشر.
البشر وقد عادوا إلى بطون أمهاتهم
ملوّثين وطاهرين.
هكذا يغدقُ الغيمُ على بنيه
وقد رحلتُ بعيداً في نزواتك
فأدركتْني الظهيرةُ في الرُبع الخالي
فقُدتُ بعيري إلى شجرة غافٍ
هجرها البدوُ منذ أزمنة،
أبيدت بقوّة الحضارة.
فيمّمتُ شطر وجهك الأنقى
موئلِ القسوة وتاج طفولتها،
ووجدتُك
تركضين، شجرةَ برار وحشيةً
كانت البيوتُ الطينيّةُ
وكانت الأمطارُ
أزمنة الجفاف واللعْنة الأزلية.
أزمنةً تتكدّس أمام بابي
أزمنةً كواسر
كأنما لم نكن نحن الذين قُدنا القطيع
إلى متاهة الوادي
والضيوف إلى الدار المقابلة
وقُجنا السيول إلى بحارها القُصوى.
وقد مرّت شائعاتُ القرى
ان رحل القادمون من البلاد المتاخمة
ورحل الغجرُ
متبوعين بأقمارٍ ونيازكَ.
جبالٌ تتلوها جبالٌ،
هذه الأبديةُ من سراب الكائن
أي أسرار تخبئها
أي خلائق ستقذفُها ذات يومٍ
في وجه كوكبنا
وقد استحال إلى خردةٍ ورماد؟
جنينُ حياةٍ أخرى
وربّما هباء الأجيال وأحلامُها.
الجبالُ الجبالُ
مفازاتٌ من السراب والظلّ
تنحدرُ على سفوحها الذئابُ وبناتُ آوى
في المساءات الكبيرة للقرى وللغزوات
وينحدر على ثغورها صليلُ الحديد.
رحمةً بنا أيّتها الجبالُ
بيقين مرابضك وشعابكِ
لم تكوني سبباً لشقائنا
لكنّك من تملكين مفاتيح الرحمة.
بتوسلات السلالة التي
تعاقبت تحت سطوتك
الممتدّة حتى الربع الخالي
شعوباً وقبائل
تجرفُهم الرمالُ والفيضاناتُ
ويبقى أثرهم الوحيد على سطح الكوكب
المتلاشي في هذيانه.
***
أسمعُ نفير الأقوام
قادماً من فجاجه البعيدة
اسمعُ نحيب الصفْرد تحت الصخرة الكبيرة
التي كانت ظلالُها
تغطي البلدة بكاملها
وكان الليلُ على منحدر النزول،
حين كان السحرةُ ينادون الفلاحين،
بالعودة الى بيوتهم
غيمةٌ بحجم سماء كبيرة
تهطلُ مطراً وأحلاماً
تبلبلُ نوّام السطوح وقارّة النخيل.
مروحةُ الجبال
سكينةُ الأفاعي.
أسمع الرعاة
ينحدرون بأناشيدهم نحو الهضبة
محدّقين في الأبد الجارف للسيول.
***
وكما تكرُ الفصولُ على الصحراء
في شكل ذئب وحيدٍ
وفي شكل مئذنة،
تنحدرُ الرمالُ من الأفق الشرقيّ
المحاذي لبلاد الأحباش
حيثُ السحرةُ ينادون بعضهم
بأسماء مستعارة.
لا أكادُ ألمحُ جزيرة النخل
قرب مهبط العُقبان.
لقد فتكتْ بها الرياحُ الهوجاءُ
وأمَّها البلى
كديار أحبةٍ غربت للتوّ.
اسمعُهم ينادونني باسمي المستعار،
أن اغربْ عن وجهنا
لستَ منّا ولسنا منكَ.
وقد ناديتُهم قبل ذلك
أمواتاً وأحياء
أن اغربوا عن…
لكنّهم ظلّوا يحدّقون في جثّتي
طوال أزمنةٍ، ويغرزون مخالبهم العمياء.
وقالوا لك نغلُ السُلالةِ
وظلّوا ينثرون الإشاعات حول قبر جدّك.
آنذاك احتدمتْ حربُ القبائل
من جبل إلى سيبة
تُشاهدُ الموت معلقاً في قرون الأكباش،
التي تُهرعُ بثغائها نحو الأبراج.
أتذكرُ حين ينحدرُ الرجال
على الهضبات وفوق التلال،
مختلطين بهديرٍ الجبال ونواح بنات آوى
غيمةُ الرصاص التي تجلدُ القرية
من أعلاها حتى أقاصي الوادي
الذي كان غزيراً ومعتماً
أسلحةُ تمتطي الجمال والبغال
تحت شمس آب الفائضة على الكون،
وكانت المخلوقاتُ تحتسي حتفها،
جرعة .. جرعةَ،
من غير مواربة ولا دهاء.
حروب واضحة
وقتلى في مجد الظهيرة.
ينادونني باسمي
أن اخلعْ وردة رأسك،
فأنت على أبواب الربع الخالي…
قتلى يملأون الصالة
ويشاركونني السرير وغرفة النوم
حتى قنينة النبيذ.
أراهم يتآمرون في قعرها
ويضحكون،
محدّقين في جثّتي
بعيونٍ، يبدو من أشكالها، أنهم قدموا
من كلّ جهات الأرض.
عيونٌ ملؤها الخيبةُ والتذكر
وكنتُ أسمعُ نداءهم منذُ الولادة
يأتيني عبر قوس الأثير
لطفولة جبليّة.
أسمعُ غناءهم الصاعد من الأجداث
طيورا بيضاء تخبطُ سقفي.
طيورٌ عاتيةٌ وأليمةٌ:
تلك أرواحُهم في سفرها الليليّ
نحو الأحبة.
ينادونني باسمي
أن ارحل من واحة الجنرالات
فمثلك ليس نبياً
ولا أوتي رأس الحكمة.
***
ها أنت، في البيداء،
ضاربٌ كبد الجمال التي فقدت صحراءها
غارقةً في الوحل،
الحقائبُ الجاثمةُ كغربان البين
في انتظار قافلة لن تأتي،
بطاقة السفر،
التي رأيتها البارحة في نومك،
وأنت تسأل المسافر الأسود،
أي الطرق تؤدي إلى اليمن؟
الكلماتُ التي تتراقصُ أمام عينك
مثل ديكة الجن،
وفي نومك تصرخُ:
مات دليلي وتقاطعت بي الطرقُ.
الصحراء ماضية في غيّها
في أيّ مديةٍ ستقضي هذه الليلة؟
أبواب العالم تخلعُها الريحُ
قبائلُ ترتجفُ من الذعر
وأخرى تنحدرُ نحو السفوح،
محدّقةً في الأبد الجارف للسيل
لن أنزل من جبلي
فلا عاصم إلا الله.
***
تنقلب قليلاً، إذ ترى نفسك في حانةٍ على منحدرٍ مضاءٍ بالعتمة، وثمة عتالون سكارى، يقُصون أطرافك بمشارط صدئة جلبوها من مستشفى دمّرته الحرب.
أصدقاؤك يضحكون،
لعبة مسليةٌ.. أليس كذلك؟
لكنّ المشهد بحاجةٍ إلى ترميم،
كأن تطلع أفاع من بيوت الجيران كانوا يربونها كالكلاب،
تشخشخُ في نومك وتلحس أطرافك المقطوعة.
هنودٌ، يأخذونك، عبر المحيط ويقذفونك في جوا،
مواكبُ سحرةٍ وبوذيين وفيَلة،
نواحُها يؤرقُ سكان الخليج.
***
لا تستيقظ هذا الصباح، تأخذُ المظلة لتراقب أهل الكهف
وكلبهم الذي افترسته أفاعي الجيران.
تديرُ زر التلفزيون، تخفضُ صوت المذيع حتى خنقه
وتودٌ لو تستطيعُ خنق العالم بالطريقة نفسها، أو ايّ طريقةٍ
أخرى.
تنتشر الأبنية المسلحةُ بأسباب القوة والضعف، لدحر
فيالق الشمس، ناطحاتُ سحابٍ مضاءةٌ بأسماء الذين
نزلوا حديثا من الجبال وما زال دمُهم يسيلُ على البطاح،
دليل السلالة والوحيدُ على إرثها الذي اقتُلع من عروقه،
وما زال الدمُ يشخبُ ويصرخُ وسط جلبة أبقار الهند
وأسطح المباني المكتظة بأطباق التلفزة وغابة العيون المحدّقة
في الفراغ.
***
الفجرُ، زارعُ الفتنة في هذه البقاع،فجرُ القتلة والعشاق
عبر أضوائه الأولى، تزفرُ الجبال الهواء الثقيل
كأنما تلدُ كوناً بكامله… كوناً يسرحُ فيه البشرُ
والحيواناتُ والأكاذيبُ، ويسرحُ فيه السماسرة الذين أتوا
من كل بلاد العالم لامتصاص ضرع الأرض وما خلّفته
عظامُ حيواناتٍ بائدة. يمضي الموكب في هذا الصباح
الذي انفصل عن فجره الأول وأصبح غريباً وفظاً وحارس
ثكنات.
كل شيء قابلٌ للبيع والشراء، كل شيء قابلٌ للاندثار
بسرعة وجوده وبسرعة لغط الألسنة الكثيرة وبكاء
الأمهات على ضحايا الطرق التي تصرخُ بنهمٍ، هل من
مزيد لهذا النهر من الدماء…؟
هل من مزيد لطبقات الألم وهذا الوحش الكاسح بمفازاته وناطحات سمائه؟
شموسٌ كثيرةٌ، في كل منعطفٍ شمسٌ متحفزةٌ كذئبة جائعة.. والخلائقُ تمضي بشمّاعة أملها الواهن، وسط لجج من اللافتات والحيل السينمائية.
تمضي نحو القرى الرازحة في وحشتها القصوى تحت طوق الجبال بأشباحه وغُزاته وشُهُبه التي سقطت للتو، بعد سفر طويلٍ لتستقر في هذه القيعان المسترخية في حوض الأزل.
أهلها الذين تغيّرت أحلامهم ولياليهم وصاروا غرباء يلوذون بجريد النخل أيام الجمع كأنما لآخر تعويذةٍ تقيهمُ الاضمحلال.
صخورٌ وأطوادٌ وأطباقُ فضاءٍ، وأحاديثُ تشبهُ زجاجاً يمضغه متسكع في ليل مدينة منكوبة،
وجوهٌ ذابلةٌ، محاطةٌ بالأيام الخوالي وحروب الثأرº
صار الموت يأكل من أطباقهم بشهية، من فرط المقابر التي نبتت عشوائيا أو نزلت عليهم جاثمة بطيورها وموتاها وجاثمةُ بالحنين،
***
لن نحاور ملوك السفح. ولن نقتفي أثر الرعاة الذين ما تزالُ ظلالهم ماثلة في السقف، كأنما نزلوا اللحظة، غاسلين أيديهم في مياه الفجر، ميممين شطر القرى المجاورة. أولئك الذين يمخرون عباب القفر ويتلاشون خلف السُحُب الجافة، تاركين أصواتهم تقودُ الليل الحائر بين أش
وللغياب كله.
نغتسلُ بمياه الصباح ونبكي،
نغتسلُ بمياه العالم وقد شربناها وما زلنا عطشى.وكانت الطرق والمشرّدون، أسمعهم.. يئنون تحت وسادتي، قادمين من الأزمنة البعيدة لمتاه الكائن، وكانت النافذةُ مفتوحة على آخر العالم، ملتفين حول بعضنا والبروقُ تحيطُ بنا من جميع الجهات، البروق الطائشةُ في هذا المح
***
هذا الضبعُ الذي تلمعُ عيناه في الظلام، صديقُ السحرة الذين ألقوا أخي في غياهب الجبّ، وما زالت أمه تنتظرُ رجوعه حتى اليوم، تعدّ الأيام والشهور والسنين تتسقطُ أخباره المتضاربة من أفواه الأهالي. بعضهم شاهدوه مربوطاً على شجرة سمُر عارياً ووحيداً. وآخرون شاهدوه
أيّام تتلوها أيّام
والانتظار ينهشُ جسدها وعيونها التي أصبحت بلا ضوء، حفراً مليئة بالوحشة على الغائب الذي قذف في خضمّ التيه، ربما ثأراً لاخوة قضوا بالطريقة نفسها
وربما..
أيّام تتلوها أيّام
لا أثر للفقيد
لا أثر للأم
لا أثر للعائلة..
هذه القصةُ التي روتها جدّتي ورواها مجنونُ القرية. أتذكر اسمه، كان اسمه عليّ بن ساعدٍ، لم أعدْ الآن أتذكر غيرها، لم أعد أتذكرهم حين كانوا يضرمون النار في الخيام،عدا الصرخة التي كانت تقفزُ من قلب الحريق نحو العدم المنتصب كعصا الأعمى، وحين كانوا يبيدون الأيا
لم أعد أتذكر شيئاً،
عدا كوْني موجوداً في زاوية ما من إبط هذه الميدوزا، أحك رأسي من بقايا القمل في سجن البارحة، أتحدثُ مع نفسي وأشباحي الكثيرة التي تمرحُ سعيدةً وتقفزُ كالجنادب تحت مطر الربيع الذي لم أذق طعمه منذ قرون.
المساء ينزلُ على المدينة
يعقبهُ الليلُ والنهار
أفلاكٌ تقود بعضها كعميان شرسين، ومجرات غاضبةٌ على وشك الاقتتال، لا شك ستحصلُ على إثارة أكبر من حروب كوكبنا التي أصبحت مضجرة: يقولُ أحد أشباحي، وينطلقُ كالسهم نحو حانات الدار البيضاء.
ويتمتمُ آخرُ: آه، مر زمن لم أذق فيه طعم التفاح أو أضاجع امرأةً من الخلف في فندق هجره زبائن الصيف وبقيت صاحبتُه التي تحبُ النكاح من الخلف.
ويصرخُ ثالثٌ: لم يعد لي مستقرٌ في هذا المكان، سأفجر ثورة في غابات الأمازون، وإذا لم افلح سأحرقُ الهنود وأبقارهم وأغانيهم التي تزهقُ أعصابي في البيوت المجاورة.
ها أنا ألمحُ الجسر الذي مشت عليه الملايين قبلي وتبخرت، ألمحه من البعيد بحدبته التي تصلُ الغابة بالبحر، بعد أن أزهق التعبُ كياني، ألمحه كمخلّص ينتظرُني منذ الأزل،حيث أرتمي في الحانة المطلّة على بحر الشمال الهائج، أشتمُ رائحة القراصنة والداعرات اللواتي آخذُ
***
شربنا مياه العالم ودمه ولم نعد نبكي،
لم يعد ذئبُ الفلاة قادراً على النحيب كما في الماضي، صار يشتمُ الدم المتيّبس على سفح الكائن ويردُ الآبار ولا يتذكرُ شيئا من ماضي الفريسة والجبال والمدن التي تناسلت فيها السلالةُ، صار يعتكفُ متأملا ذريته الضارية، مأخوذاً بهذا الفيض الذريّ الذي انبثق كإشراقة
همْهم رعدٌ واكفر ظلامٌ وهو في حيرة من يتخذُ قراراً أخيراً. مشى خطوات كمن يراوغُ نفسه، فوق تلال طفولته المبعثرة، حاول أن يحتمي بشيء منها، شجرة أو ذكرى أو نبع. لكنه أحسّ أن لا صلة له بهذه الأمكنة ولم تكن له طفولةٌ ما على هذه الأرض، عاودتْه نوبةُ الدُوار الح
ربّما حلم بليلةٍ أخيرةٍ مع أنثاه التي اختفت منذ سنين، كانت تركضُ وهو وراءها.
***
شربنا مياهاً سوداء
وبالغْنا في نقض الحكمة.
ما الذي يجعلُنا نرتطمُ بالصباح كعدوّ؟
ونظلُ جاثمين على فراشنا الذي نمتْ عليه الحشائشُ،
بينما الأمواجُ تخبطُ السقف:
أراها في قلب المرآة
حاملةً قوارب وحيتاناً
وأرواح بحارةٍ غرقوا.
وفي الصباح نفسه
نذهبُ نحو المكاتب،
نشدُ أحزمة المقاعد جيداً
ونُصغي لأنين الموتى تحت العربات
وأنبياءٌ يملأون الفضاء باللعنة.
أيتها الصحراءُ.. الصحراءُ
ماذا أبتغي من قلبك الذبيح؟
ومن مدافن قتلاك ونفطك؟
إنني لا أرى، غير نعشٍ يحملُه بوذيّون
وتعاويذ أقوامٍ هلكوا.
ماذا أرى، ايضاً في جروفِك
المليئة بالنميمة
ومخلوقاتك، بمساحيقها وعطورها وأياّمها الخاوية؟
أيتها الصحراءُ
غادرك الركبُ تحت شمسٍ ترضعُ أطفالها
بأضواء سامةٍ.
غادَركَ الحقُ والباطلُ
وغادَرتكِ الملحمةُ.
غادرك الحربُ والسلامُ
وغادرك الخريفُ الأكثر رأفةُ
من ربيع المدُن
غادرتك النجومُ الأولى والأيائلُ
وضفافُ الأودية
غادَركِ الزمانُ،
وما يظنّونه كنزاً ليس سوى آلية حتفك الرهيبة
غادَرتكِ رغبةُ المسافر في تفتحاتها الأولى
غادرتك أحشاؤك
يجرجرُها التجارُ في أسواق البورصة
غادرتك شفافيّةُ الغياب
وذكرياتُ المحارب،
بماذا أصفك:
أرملةُ العصور
أم مستودعُ نفايات العالم.
***
بماذا نصفُ أنفسنا
وسط هذه الرمال الزاحفة
متكئين على ساعد الخسارة
لكنّا لا نفرطُ في شبر من حضارة الأجداد،
هكذا يقولُ الخطيبُ الذي يدحرجُ الحقائق من فمه
كالجرذان
أي أجدادٍ بقيت لنا
أي ماض أيةُ آلهة؟
نتسلقُ ظلالنا كما تتسلقُ العظايا الجدران
ونمضي صوب بحر لا يشبهُ البحر
متّحدين بأرواح محمولة على
محفّةٍ كانت فيما مضى أرواح أمواج وأسماك.
لا نلوي على شيء
عدا كوننا موجودين في هذا المكان الذي سيسلمُنا بعد
قليل إلى غابة امكنةٍ
لا تخوم لها،
لكن لا بأس بوجودنا ونحنُ نرقبُ العالم
من منظار جبالٍ سحيقةٍ:
مكنسةُ الغيم
أقواسُ النصر
بومةُ الأرق
أوسمةُ الزعيم
عقاقيرُ منع الحمل
مدنٌ تحترقُ وأخرى تفتكُ بها الكوليرا.
الاختراعُ الجديدُ للأسلحة
مصارعُ الايدز
الحلاقون الشواذُ، يمسحون،
الشفرة بالمعطف،
نباحُ الجيران
حكاياتُ كارلوس وعنترة
فتاوى الحيْض والنفاس
حقنةُ الهيراوين،
ومعارضُ أخرى لا تُعلن عن نفسها
لأن الوقت قد تأخّر، تأخّر الوقتُ عن النشيد الأول
***
تأخّر الوقتُ عن بدوٍ رحلوا
تاركين زهرةً في طريق
بينما عيونُهم تضطرمُ في المصحّات.
ماذا تبقى لنا يا رضوى؟
نحنُ أبناءك الذين بختم البراءة الأولى
سُفحنا على أعتابك من غير دمٍ
تنامُ هادئاً على جوعٍ، فارداً جناحيْ نسرٍ قتيل
سُفحنا على أعتابك من غير دمٍ
أعضاؤك ما زالت تحملها الريحُ نحو الأقاصي
ويكنس الكنّاسون برازك في الصباح
لأن الشيخوخة لا ترحمُ الأوابد.
هناك في مأوى العجزة
ألمحُ أشباحك تصدمُ بعضها
ثم تجلسُ مع المجاذيب في
الشعابِ الشرقيّة