أسئلة المجتمع المدني ورهاناته

الوطن24/ إنجاز: د الغزيوي أبو علي
إذا كان المجتمع المدني هو ترميم العلاقات الاجتماعية، وتجديد الحياة المشتركة، فإن شعار هذا المفهوم هو التحرر من قبضة الاستبداد، والمعسكر الاشتراكي، وهذا التحرر لم يسلم من الإدانة، والأيدلوجية رغم أن الإنسان مدني بطبعه كما يقول الفلاسفة لكن اليوم يتطلب منا أن نعيد الأسئلة الفكرية: ما علاقة المجتمع المدني بالسلطة؟ هل يشكل سلطة رمزية؟ وكيف نمارس وعينا الجماعي كمنظمات وحركات وهيئات؟ أسئلة كثيرة تتيح للأفراد وللمجتمع أن يمارسوا حريتهم في الاختلاف والتنوع الإيديولوجي والتربوي والأخلاقي، لذا نجد في مجتمعاتنا العربية أشكالا وأنواع من المنظمات، والهيئات التي تشكل أركان المجتمعات، لكنها مرتبطة بالجهاز الحاكم وشروطه كما في المجتمعات القبلية الليبية، والمغربية، والسعودية، وسوريا، فالرابطة مع القبيلة والعشيرة والدولة هي رابطة إما عرفية، أو قانونية أو دموية، وهي ذات منطق تراثي عمودي، بقدر ما تقوم على الالتزام والإكراه أو بقدر ما تستخدم العنف المشرعن. شأن هذا المجتمع المدني شأن الحزب أو الثقافة أو المدني على صورة الدولة من حيث نمط العلاقات بين الأعضاء، حيث يفقد بعده المدني ولا يكتسب مشروعيته إذ يتحول إلى نظام استبدادي بل إلى دولة سيئة كما يقول على حرب في كتابه (العالم و مأزقه ص132 في المجتمع المدني) فالمجتمع المدني يتشكل من طرائق، وعائلات صغيرة، مسيجة برابط سلطوي، مما يمنحه قسريا وظيفة مبنية على التفاضل و التراتب الفرداني كما يقول جون نوهوس، لأن مهمته هذه أن تؤمن التوازن بين الخاص والعام أو بين الفرد والجماعة أو بين الأنا والآخر، أو بين الحرية والسلطة، وبصورة تحول دون استبداد الدولة أو جشع الشركة أو عصبية العائلة وانغلاق الطائفة، فالمجتمع المدني اليوم غير قادر على تنظيم ورشات ثقافية، أو احتجاجات منظمة، أو اعتصامات، فهو مساحة من الآراء الغير الديمقراطية كما في لبنان أو سوريا أو العراق، فتغيير سلم الوعي الثقافي وقواعد التواصل الجماهيري يبين لنا شرعنة حقوق الاحتجاج، والامتثال لأوامر المجتمع دون الدولة، كل هذا من أجل بناء ذات مستقلة قادرة على ممارسة حضورها الفعلي، وقادرة بإمساك زمام الأمور في صنع الحياة النضالية، أي أمارس علاقتي بوجودي على سبيل الاستقلالية الذاتية والفاعلية الفكرية كما يقول علي حرب في كتابه (العالم ومآزقه ص134)، إذن فالمجتمع المدني ليس فرداني، بل عمل جماعي، حيث يهدف إلى تغيير خريطة المجتمعات دون السقوط في شرك الذاتية كما يعتقد أدام سميث، بينما نرى اليوم بأن المجتمع المدني بكل تكتلاته المتنوعة الموجودة في المجتمعات الغربية يخضع لقوانين الديمقراطية وهناك من يعيش تحت رحمة القوة والشر كما يرى هوبز وهيجل، لأن المكتسبات المدنية المرتبطة ما بعد الحداثة لا تسمح لهذا المجتمع أن يصنع قراراته بل تأسره هوية مسبقة تصنفه بصورة نهائية في دائرة من دوائر الشيطان كما يقول حزب العدالة والتنمية، وحزب الإمامة، أو الفقيه في تركيا، وهذا التصور كما يرى مخائيل وولزر: إذ لا وجود لفرد لا ينتمي إلى وطن ودولة أو إلى ثقافة وعائلة، فمن دون هذه الأطر يتحول المرء إلى مجرد إرادة سياسية محضة أو إلى ذات خلقية متعالية تخضع للأوامر الجازمة، وبصورة تجرده عن كينونته المجتمعية أو بيئته الثقافية ولحمته العصبية. فهذه الرؤية العالمة تقربنا إلى بعض الهيئات، أو المنظمات الذين سعوا إلى بناء مجتمع علماني اشتراكي ماركسي، تجردوا من كل الروابط القبلية أو الأسرية أو العشيرية، حيث حولوا أحزابهم إلى طوائف، وفرق كلامية وبشعارات شعاراتية تمارس الإقصاء، وأيضا تضفي على اللغة لغة القوة، فيتحول هذا الإستبداد الرمزي، والمادي إلى جمع الثروات وتصفية الحسابات الشخصية، فهذا الشعور لا يتيح لهذه الجمعيات، ولا النقابات ولا الأحزاب الديمقراطية بإنتاج وإبداع، وتلبية الرغبات والمطالب للجماهير الشعبية، وهذا ما نجده في بعض الكتابات كنادية أيت عبد المالك في دور المجتمع المدني في التحول الديمقراطي كحماية الحقوق والحريات، وأيضا لكربوسة عمراني (المجتمع المدني في ظل الحراك العربي الراهن) وأيضا لأحمد عمر حمدي (المجتمع المدني والتنمية البشرية المستدامة) فهذه الدراسات تحدد لنا المجتمع المدني وأركانه حيث يمكن حصره في ثلاثة أركان، (الركن الذاتي – الاستقلالية – والتنظيمية) وهذه العناصر تقربنا إلى الوظيفة والدور الذي يقوم به كحضور قوي باعتباره همزة وصل بين الدولة والمجتمع كما قلت سلفا، فهو المساهم الفعال بصورة في الرفع من مستوى مشاركة الأفراد، إلا أن أغلب الدراسات في الوطن العربي حضور المجتمع المدني مع مجموعة من المفكرين كغرامثي ولوك وماركس، وقد ارتبط بمفهوم البيئة السياسية، والاقتصادية، غير أن هذه الدلالات لا تكاد تبتعد عن المجتمع الذي ينتظم فيها الأفراد خارج الدولة ومؤسسة الكنيسة، وقد ارتبط هذا المفهوم بالمجتمع الأبوي (البتريركي) وقد عرف في الحضارات القديمة وفي المجتمعات الإقطاعية أو ما بعد الإقطاعية المؤسسة على العرق، والدين، والعرف، وأن النشاط المدني تابع لعمل الإنسان والمجتمع، ومن ثم كذلك أدى إلى ظهور السياسة المدنية المرتبطة بحقوق الإنسان، وبالمجتمع، ولكن هذا التحول سيعرف ارتباط عضويا ما قبل الحداثة لأن الدين والسياسة أصبحت القوة المهيمنة، وأمست الكنيسة والنبلاء، والاكلير وساهم المتحكمون في المجتمع، لكن مع القرن 19 الذي هو عصر الانقلابات السياسية والاجتماعية أصبحت السياسة المدنية تعاقدية بمفهوم روسو في كتابه اعترافات وليس تراتبية كما عند أفلاطون في جمهوريته، وبالتالي أدى إلى ظهور طبقات عمالية في جسم الرأسمالية، الأمر الذي أدى إلى إعادة بناء هذه العلاقات بين النقابة، والدولة، كما يرى كارل ماركس (قوى الإنتاج – إعادة بناء الإنتاج)، أما غرامشي فيري أن المجتمع المدني هو الفضاء الذي تظهر فيه الهيمنة الاجتماعية وأداتها الثقافة والمثقفون، في مقابل المجتمع السياسي تتجلى فيها القيادة والسلطة والهيمنة، وتبعا لسنة التطور التاريخي، وقانون الممارسة فالأحزاب والأفراد والنقابات أحدثت تغييرا في السياسة الاجتماعية لأجل اضفاء دم جديد في التدبير الوطني والدولي، لذا أصبح هذا المجتمع المدني موازيا للدولة وهذا يتوافق كما ذكر مع العولمة التي ثورت المجتمع ليحكم نفسه بنفسه، وقد استخدمت الدول هذا المفهوم نظرا لعجزها المتزايد عن الإيفاء بالوجود، وكذا الانسحاب من المشاريع المهيكلة كما ترى في بعض الدول العربية، كليبيا، والسودان، ولبنان، والعراق، والجزائر، فهذه الدول غير قادرة على الاندماج في سوق عالمية للتنافس نظرا لهيمنة الأنظمة الأوليكارتية لأن غياب قيم العدالة والمساواة بين الكتل البشرية، جعلت المجتمع المدني أن يكون نظرية من المعايير التي يهدف النظام الاشتراكي والشيوعي والرأسمالي إلى تدميرها و تشويهها، فرغم كل هذا فالمجتمع المدني اليوم يريد التحرر السياسي والفكري وانفصال الديني عن المدني كما في أفغانستان وليبيا، والسودان، وتركيا، وهذا التحرر كما أوروبا هو الانتقال من الديني إلى العلماني، لأن هو الواقع الذي يؤكد هوية الفرد، وعقيدته، وحريته ومقياس لحريته أيضا، وأيضا المساواة السياسية والقانون، لأنه مجتمع القانون، والحرية، باعتباره مصدر السلطات البلدية، والمحلية، والتشريعية فعن طريق الاقتراع، والتمثيل، والاختلاف، والتنافس كظاهرة تاريخية لهذه المجتمعات وهذه التنظيمات المتنوعة، حيث تنشأ لتحقيق مصالح أفرادها أو لتقديم خدماتها للمواطنين أو لممارسة أنشطة إنسانوية متنوعة، وتلتزم في وجودها ونشاطها بقيم ومعايير الاحترام والتراضي والتسامح والمشاركة والإدارة السليمة للتنوع والاختلاف: وائل السواح (الديمقراطية – سلسلة التربية المدنية – ط1 – 2014 ص 48) فالدولة العربية لا تعترف بهذا المفهوم المدني، لأنه كيان غير مشرعن، حيث يهدف السلطة الحاكمة، ويعري المسؤول، وهذا الوعي النقدي لم يألفه الإنسان العربي الذي عاش العصبية القبلية، والصعلكة، والتمرد والأنانية، والقيادة، فيرى أن هذا المجتمع رغم خضوعه للتسيير وللقانون، فهو يشكل دولية داخل الدولة. لهذا يجد معارضة مصنوعة و مفبركة من طرق الأجهزة الحاكمة لإسقاط أوراقه قبل النضج كما رأينا في خريطة البلدان العربية، حيث أبدعت تشكيلات يمينية لمناهضة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، كما في المغرب، والجزائر، وتونس، وقطر، والسعودية، والأردن، لأن المجتمع المدني مطلوب منه أن يحتج على السياسات التي تنتجها السلطات العمومية، أو مواجهة إحدى الظواهر السلبية وأن تمارس أيضا ضغوطها لتحقيق فوائد هذه الفئة الجماهرية (الفلاح – العامل – الطالب – النجار- الخباز…) وأن لا تدخل في المناقشة الانتخابية التي تعني الأحزاب السياسية كما يقول حسين علياء محمد <<نشأة و تطور المجتمع المدني في الانترنت>>. إذن نطرح السؤال: هل الأحزاب والنقابات قادرة على العمل في ميادين متنوعة باستقلال عن الدولة؟ وكيف تصنع الدولة الأحزاب؟ هل هناك أحزاب ديمقراطية؟ وهل هناك نقابات مستقلة بالمفهوم العقلاني؟ أسئلة كثيرة تجعلني أرى الانقسامات المتعددة، والتنافس الغير العضوي والتناحر، وهذا ما يجعل الدولة تعيش الأريحية، تراقب من بعيد دون أن تضع مجموعة من القواعد بخصوص الحقوق والواجبات التي تترتب على الفرد نتيجة لانضمامه إلى عضويتها، فالدولة هي التي تعكس قدرة المجتمع المدني، وتعمل على غرس قيم المواطنة، والقوانين والمبادئ والانتماء والاستعداد لتحمل المسؤولية، فانضمام الدولة إلى المجتمع المدني يؤثر في الحالة النفسية للأحزاب والنقابات بعدم الاستعداد للتضحية، وإنكار الذات في سبيل الجماعة، لأن الحزبوي كما ذكرت في العديد من المقالات هو مطلوب لذاته وليس للمجتمع، لأنه يحب السلطة وأيضا التسلق الطبقي، مما يجعل فعل الخبرة ممارسة ضد الديمقراطية السياسية، رغم أن وظيفة المدني هو تلقي المطالب الجماعية التي عادة ما تكون متعارضة مع الدولة، حيث يعيد ترتيبها وتوزيعها حسب المقام المحكم. وهذا كله هو إعادة الاعتبار للمواطن بوصفه قيمة إنسانية وأخلاقية وعملية كما يقول كانط لأن ترسيخ قيم الحرية والجمال سيكون مدخلا إلى مواطن حقيقية كالديمقراطية والحرية، والمواطنة، والهوية، والعدالة، والشفافية، فهذه الأبعاد تعكس تراثا تاريخيا يجسد تطور نمو الإنسان فكريا، وذهنيا، ومعرفيا، ولا يجعله يتقيد بالأعراف، ولا بالتقاليد ولا بالجغرافية المحلية، لأنه ينتمي حسب أدبيات العلاقات الدولية إلى – الدولة – فهذه الأخيرة بوصفها شعبا واحدا سواء على المستوى التنظيم أو على مستوى الاجتماعي، لأن الهيئة الحاكمة لا ترى في هذا المجتمع المدني كيانا مستقلا وخاصة إذا كانت الايديولوجية السائدة تقر ذلك كما في ليبيا، و يرى ألان تورين أن نقد الحداثة ترجمة وأيضا أسئلة علاقة الواقع بالدولة، ووسائل حكامتها للديناميات المحلية، بما تقوم عليه من آليات توجيهية ومؤسساتية ونخبوية، وما يحدها من أبعاد إنسانوية واجتماعية، وتاريخية، فالمجتمع المدني هو سياسي في جل الأنظمة العربية، لأنه مدعم من الجهاز الحاكم بانخراط فعلي في الدينامية المحلية مما يفضي إلى اقرار دستوري بنفس سياسي وهوياتي وحقوقي الذي يتلائم مع لبنات حكامة تشاركية بين الدولة و المجتمع، فالدولة في توجهها كفيلة بإعادة بناء الأنساق المحلية والجهوية وفق تقطيع مجالي مرتبط بالواسط الثالث (المجتمع المدني)، صباح – جهيم – وزارة الثقافة – دمشق ص154 (إنها وحدة واحدة عندما يتعلق الأمر بعلاقتها الدولية، لكن عندما يتم التعامل مع الهيئة الحاكمة كعنصر من عناصر الدولة، فإن المجتمع المدني يعتبر طرفا غير حكومي)، فرغم هذا الطرح البريء كما يرى ألان تورين فإن المجتمع المدني كما نرى على مستوى التربوي أو الانتخابي فإنه يمارس ضغوطات لتحقيق مصالح أعضائه ص144 (المرجع نفسه)، إذن فالمجتمع المدني في الدول العربية هو مجتمع سياسي وتنظيمي (النقابة – الحزب) والروابط المهنية واتحادات الطلابية والحركات النسائية، حيث يكون تأثيرها قويا على المشهد السياسي والتربوي والثقافي، ونظرا لعولمة العولمة كما يقول المهدي المنجرة في كتابه “عولمة العولمة”، فيكون هذا المفهوم إما بالحزب أو بتنظيم معين لأن المجتمع المدني هو من بين التنظيمات الغير الحكومية التي لها دور كبير في تشكيل الدعائم الأساسية للديمقراطية في المجتمعات الأساسية للديمقراطية في المجتمعات الغربية كما حددتها المعاجم فهو إذن مجموعة ملتزمة بقيم ومعايير الاحترام والتسامح والاختلاف، ويعرف حرب هذا المفهوم <<بأنه مجتمع تداولي مفتوح للممارسة الاجتماعية الاختيارية من خلال كل المؤسسات المكونة للحياة الاجتماعية (المرجع نفسه ص114)، وانطلاقا من هذا الطرح أن المفهوم – المجتمع المدني – لا يتحقق بدون – انتماء – أو روابط أو العرق أو التاريخ، أو دينية أو طبقية، فكل هذه الروابط كما نعلم مبثوثة في مجتمعاتنا العربية لأنها تؤول إلى هدمه بأجوبتها الأحادية وبعقليتها المغلقة وحلولها الحتمية، ويرى علي حرب أيضا <<أن التجارب في بلدان العالم الثالث بشكل خاص تقوم بعسكرة الأفكار والمجتمعات وتقويض الحريات المدنية والديمقراطية من هنا تراجع مفهوم المجتمع المدني مع سيطرة الأدلوجات الكفاحية والحريات التحررية بصرف النظر عن مضامينها العقائدية>> ص138 (المرجع نفسه)، فالمجتمع المدني كما أرى ينبغي أن يهتم بدراسة الواقع الراهن والظروف السائدة التي تختص بمجموعة من البشر أو الأحداث، وذلك بإحداث تغيير من كل الجوانب، لأن الوصول إلى الهدف عن أية تساؤلات لا تتم من طرف هذا النوع من هذه الأفراد المعسكرين لغويا، إذن يتطلب القياس والتصنيف والاستقراء والمعالجة الإحصائية، مع وصف للواقع بكل التفاصيل، وتحديد العلاقات الموجودة بين المجتمع والدولة بكل أبعادها المختلفة، لذا نجد في البلدان العربية بعض الأحزاب اليسارية والنقابات التي يشهد لها التاريخ النضالي والقومي والوطني بنزاهتها وحقيقتها – كالاتحاد الاشتراكي، والحزب الشيوعي، واليسار الموحد، لأنها تستخدم المناهج الغير المعيارية التقليداوية والمعرفة الحسية، والتأهلية وأخيرا العلمية و كذا الإثبات والتحقق، والتفكير المنطقي والانفتاح الفكري مع الابتعاد على إصدار الأحكام النهاية، لأن المجتمع كائن حي، يتطور وينمو ويتغير، فنموه وتطوره دليل على تجاوز الصعوبات والغموض كمشروع تمهيدي أو تصور مقترح لخطوات البحث الميداني وأدواته، ومراحله المتنوعة، إنه عبارة عن كل ما يتصوره الباحث من القرارات التي يمكن أن يستخدمها عند ظهور المواقف المختلفة والمرتبطة بالظاهرة المدروسة – غالبا ما يحث المتمرس بالفكر اليساري وليس الفيودالي ولا الإمبريالي، ولا اللبرالي ولا القومي هو الذي يجعله يضع المجتمع وليس الفرد في نواة الدقة والفطنة في فهم القواعد والأحكام، والفرضيات العلمية، ودون التسليم والاعتقاد بأن الأحكام والآراء التي يراد اقتباسها هي حجج و مسلمات مطلقة، بل ينبغي الاعتماد المنهج التجريبي بصورة واضحة لمعرفة المتغيرات الظاهرة المدروسة كهيكل منظم ومركب من أجزاء متعددة ومترابطة ومتفاعلة يختص كل منها بوظيفة محددة في إطار من التعاون والتكامل عند أداء الأدوار الفردي ليؤدي النظام ككل وظيفة عامة وليحقق أهدافا محددة، فالحيز المدني يتطلب الشروط الضرورية كوجود حاجة عند الأفراد والمجتمع، لأن خصائص الحاجة المتكاملة (الغذاء والملبس) وحاجة المتنافسة (ثمن المنتوج…) والحاجة المرافقة (السيارة والبنزين)، فهذه الحاجات ليست حاجات شكلية أو موسمية، أو لحظوي وفوري تنمحي في الوقت الذي ينتج فيه كما يقول أدم سميث، بل هي نسق فكري توحد بين المعرفة و الواقع من أجل خلق سياسة حمائية بصفة دائمة، وهذا يدل على أننا نعيش على المستوى السياسي كسلطة مركزية، رغم وجود سياسة الريع الذي أصبح أمرا مشروعا نتيجة المركز الاجتماعي الذي يحتله التجار، من هنا يرى ماكس فيبر في كتابه (العالم والسياسة أن هناك ثلاثة أشكال للسلطة): السلطة التقليدية هي التي تتأسس على الوراثة، والسلطة الكاريزماتية، والسلطة المبنية عن طريق الحكمة. فهذا التقييم الموجود في الأنظمة العربية يجعلني أن الشرعية الديمقراطية هي الطريق الأمثل والأنجع لممارسة السلطة، وانتقالها بطرق سليمة من جهة وتحقيق المصلحة العامة من جهة ثانية، فالمجتمع المدني قادر على ممارسة سلطته عن طريق التفويض، لأن الهيئات التمثيلية هي من تتولى السيادة، و هذا المبدأ يكمن أساسا في الأمة لذا يمكن اعتبار هذا المدني – بالوكالة الأمرة حسب جان جاك روسو، لأنه عبارة عن عقد يلتزم باحترام الشروط التي تتضمنها الوكالة، لأن الوكيل لا يمتلك سلطة التصرف إلا وفق توجيهات وأوامر من الأعضاء قصد ممارسة سلطة في مجال محدود كما يرى باشلار، فالمواطن يتنازل عن حقه لصالح ممثليه (التفويض) وهو ما يتعارض مع الفكر الديمقراطي، لأن الشرعية لا تكون إلا إذا احترمت القاعدة القانونية، إذن فالمجتمع المدني يمارس سلطة اجتماعية إما أن تكون سلطة محدودة تقتصر على عدد من الأعضاء أو سلطة مفروضة التي لا تملك صلاحية اختيار الأشخاص، وأيضا له سلطة سياسية، إما مطلقة تربط بالسيادة أو الإختيارية، لأن هذه الأخيرة هي عبارة عن قوة مختصة لإدارة جماعية بشرية يتولاها شخص أو أكثر بطريقة مستمرة، فلا دولة بدون قوة، و لا وجود للسلطة بدون قوة، فالقوة إما مادية (الجزاء – الإكراه…) لتقييد حرية الأعضاء (القانون – الحاكم) يقوم بتصريف أمور الجماعة يسودها الاتزان – المراوغة – الخداع وغيرها، إذن فالعلاقة بين المجتمع المدني والدولة هي علاقة تشاركية، والتفويض المجدود بالزمن، لأن العلاقة بين الغريزة والواجب هي علاقة القوة والخضوع، أو علاقة الأنا والآخر، إذن لماذا يحدث التمرد على السلطة؟ ولماذا يحيد الحاكم عن فكرة الجماعة؟ أسئلة كثيرة تحول الأنظمة المدنية إلى سلطة فعلية بديلة غير مشروعة، مما يحدث انقلابا وتغييرا بالثورة على النظام كما في تونس، وليبيا، والعراق واليمن، وسوريا، لأن تحقيق فكرة الانتماء والتطوع، ونكران الذات يكون دائما منقوصا، لأن السلطة لا تقوم بأدوارها المنوطة إلا إذا نما الوعي الجماهيري، وقامت الاحتجاجات والثورات، لأن وضع الأمثل للسلطة هو الوضع الذي تستطيع فيه تحقيق التوازن بين القوتين كما في المغرب ودول الخليج العربي، فالتوازن يعني إذن سلطة الحق والقانون، والمؤسس كذلك على حق الشعب في تقرير مصيره، وذلك وفقا لإرادة الأغلبية و المساواة مستبعدا أي سلطة مستبدة كما في (الربيع العربي)، فالشعب هو المالك الفعلي للسيادة، وللسلطة السياسية سواء على المستوى الديمقراطي المباشر أو على المستوى الديمقراطي التمثيلي (حق الشعب في المشاركة الفعلية، والتأثير في الفاعل السياسي، ومراقبته ولكن عن طريق ممثليه)، فالبعد السياسي يقوم على عنصر الانتخابات الحرة والنزيهة باعتبارها آلية قانونية التي تضفي الشرعية على تداول السلطة وانتقالها كما في الغرب وخاصة (فرنسا – انجلترا – ألمانيا – أمريكا) وايطاليا – لأن التزام الأحزاب السياسية بالبرامج التي انتخبت من أجله هو الذي يعطي لصناديق الإقتراع قوة تملك سلطة الحسم و ليس سلطة الإدارة كما نرى في السودان، وليبيا، والعراق، ونيجيريا و جنوب افريقيا، حيث يرتبط البعد السياسي بالبعد الاجتماعي إلى درجة أن فكرة الفصل جد مستحيلة، ويقوم البعد السياسي على العامل الرقمي أي خضوع الأقلية للأغلبية في حدود احترام حقوق وحريات المواطنين، كما نرى في ليبيا (طرابلس، وبنغازي) إذن لابد أن تكون هناك آلية المشاركة السياسية (الانتخابات – التقطيع – مساواة المواطنين – أعضاء الممثلين – التوازن الديمغرافي – المساواة الرقمية)، فالديمقراطية المدنية هي استحضار الماضي لبناء الحاضر والمستقبل، وبناء ثقافة غير معولمة وأخلاقية شخصانية، لأن المرحوم الحسن الثاني قال إن أي تقليد في هذا المجال يؤدي إلى العقم الأيدي والنهائي، إذن علينا أن لا نعيش ما قبل الدولة، ولا حالة الفوض، بل لابد من سلطة قانونية تكون فيها السيادة لاعتبارات إنسانية وسياسية وهذا ما يسمى بألسنة الدولة، فهذه الأخيرة هي هيئة سياسية تتكون من شعب وأرض، ونظام حكم، تكون له سلطة على شعبه، ووطنه وتاريخه و لغته ودينه، فهذه العناصر هي التي تشكل الدولة كما يرى عبد الله العروي في كتابه الدولة حيث تجعل كل شيء حقيقي مادي و ذلك بفعل بامتلاكها شخصية قانونية و سيادة كلية، و كذا حصولها على الاعتراف الدولي فالاعتراف هو عمل إداري للدولة كامل الحرية في القيام به أو رفضه، وهي إجراء مستقل عن نشأتها، فهو إما صريح أو ضمني أو فعلي أو قانوني، إذن فالمجتمع المدني اليوم يرغب في بناء هوية وطنية تختلف حسب اختلاف الأفراد والجماعات، والثقافات، لأن الرغبة في تأكيد الهوية البسيطة والمركبة هو تأكيد لمواجهة أساليب القوة والقمع ورموز السلطة المهيمنة إذن ينبغي للمجتمع المدني سواء كان فدراليا، أو كوفيدراليا، أن يتأسس على معرفة موضوعية التي تنمي لدى الشباب القدرة على استخدام منهج التفكير الموضوعي العلمي في مختلف جوانب حياته، ويبتعد عن المطلقات والقيميات، وهذا المنهج له وظائف عدة منها الموضوعية، والدقة، وكذا الإثبات والتحقق، والتجريب، وأخيرا التفكير المنطقي الذي ينقلنا من حالات خاصة إلى حالة عامة، لكي يكون مجتمعا نافعا دون السقوط في البيروقراطية والتعنت الذاتوي والإداري، وكذا عدم التواصل بين الأعضاء والأطر، كل هذا يقربنا من الوقائع والأحداث السياسية العربية والاقتصادية المهولة وأيضا المجال التربوي الذي يعيش بين المد والجزر، إذن أين نحن من المجتمع المدني؟ وهل هناك بالفعل مجتمعا مدنيا؟ أم أن الدولة قادرة على تعويض هذا النقص الحاصل؟. أسئلة تبقى مفتوحة وقابلة للتأويل والتحليل والنقد الموضوعي، لهذا وجب على القارئ أن يقف أمام العنوان موقف المتعبد، لا القاضي النصوح، بل عليه أن يعيد أسئلة الواقع العربي من أجل معرفة كل الطبقات السائدة، وكيف تؤنس النخب السياسية، وكيف تتشكل القيادة والمهام التاريخية والتحولات الاجتماعية.