المخرج حسن العلوي بين جاذبية النص الدرامي ولعبة الركح

الوطن24/ إنجاز: د الغزيوي أبو علي.  

   تتنوع توظيفات الممثل وإيقاعاته، من فضاء إلى فضاء، ويعد هذا الممثل كيانا، ودلالة يصعب تحديد تاريخيته، ومن خلال عتبات المسرحيات التي ذكرتها، يفضي بنا إلى التعرف على المجتمع وماهيته، ولغته وامتداده عبر الزمكان، فهذه العتبات إما أن ترتبط ببعده السيكولوجي أو اللغوي الدرامي، أو الوظيفي الركحي. فالمخرج حسن العلوي في تعامله مع الممثل/ إعداديا، يمده بأنظمة تواصلية، وتراكما من السلوكات والقيم الفرجوية، وهذا الإعداد (البروفات) يشكل أرضية وخطوطا عامة لهذا التمهيد لكي تكون له مواصفات غير ثابتة داخل الفضاء، فيبقى الممثل مرجعية وأرضية التي ينهض عليها العرض، إذن كيف يرى المخرج هذه العلاقة السيكودرامية للمثل، والرؤية الركحية؟ يختزن هذا السؤال المحوري بعدين جوهريين، سيكولوجية الممثل الماقبلية، والمابعدية، فالممثل يتدرب بكل حرية وتلقائية يكون أقرب إلى حالته الطبيعية، فهذه النواة الإعدادية التي يتمتع بها جسده سرعان ما تتواسع مع الشروحات والتمرينات ليصبح الجسد عبارة عن علامات متنوعة، ويقول باتريس بافيس “إن الدراما السيكولوجية تستخدم اليد، والوجه وتمد الأشكال الشعبية بالقيمة الإيمائية لهذا الجسد، ويجعلنا الميمي المعاكس لسيكولوجية الوجه المحايد”1. فالمخرج يعمل على استبطان هذا الجسد في بعديه النصي، والعرض، مما يعطي له شوية فنية، وإيقاعا يلعن كل التمظهرات الشكلية لهذا الجسد (هذا ما نراه في مسرحيات: موز وتفاح، الساروت، الكود، وخيطانو، وتمارين في التسامح)، فالمخرج يعمل على ترتيب هذه التمظهرات الشكلية لهذا الممثل وحول كل ما أنجز حول جسدية الأشياء والعالم الداخلي، والخارجي2.

   فسيكولوجية الممثل الإعدادية تشكل نظاما لفظيا يحتوي العلامات النقدية الشفوية، والمسموعة والمكتوبة، ليكون الممثل قابلا للتطويع، وللتواصل مع الشخصية، وكل الأنظمة الدلالية الأداتية، والبصرية مع استبعاد كل الوسائل الخارجية3. فهذا الإقصاء الخارجي هو إعادة الاعتبار لعنصر التوازي لخلق التواصل، بين الحركة الداخلية والإيماءة المحيطة به ذهنيا، لأن الإيقاع الداخلي يمنح للشخصية المضمرة، والمعلنة قانون جاذبية، هذا القانون الذي لن يستقيم بدونه وليس برؤية ميكانيكية تفسيرية بسيطة4 ويرى جان لوكوك أن الحالة الداخلية في البانتوميم، والدراما والمسرح الديلارتي، تشكل دلالة داخلية، وقاعدة تسهم في إبراز العضوي و الجمالي و الحركي، فالماقبلية لدى الممثل المسرحي مؤشر مسرحي، وامتداد له، ووظيفة دلالة على شخصيته العضوية (كالتعبير الوجهي أو الحركي الإيمائي كاليدين، أو التنقلي “الجسد كله”). وهذا الالتفاف إلى الداخل الغير المرئي للحرية الجسدية، يمكننا من القبض على فعل المخيلة، والإبداع والفكر والوعي والإدراك ودون الانفصال عن الشخصية بغية الالتحاق بالأصل الحاضر للمسرح، إن هذا الجسد الممسرح بوصفه الظاهر والجوهر والذي يمكنه أن يبدع كل شيء، إنه الممثل الذي يعلن عن كل شيء عن حضوره، وغيابه. فالمخرج يفكر دوما في الإمكانات الدلالية الغير المفكرة فيها، والمفكرة فيها ومن قبل الذات الفاعلة، فالبعد السيكولوجي (المابعد) ينبثق لشخصيته، وهذا ما يتطلب الوقوف عند عناوين المسرحيات، لأنها تشكل تميزا، وتمد الشخصية إما بالانطواء، أو الانفتاح والمنبسط، وهذا لا يأتي إلا في التفكير والوجدان والإحساس، والحدس، وذلك وفقا للاتجاه السائد عند الشخصية، فالمنبسط الوجداني يتميز بالميول الاجتماعية والانتماء الطبقي والإيديولوجي أما المنطوي فهو لا يفصح عن دواخله، فتظل لغة معلقة بين التفوه والفهم، وبين الحضور والغياب، وهذا الضياع عن طريق التمرينات التي هي بمثابة الكفاءة في فهم هذا التميز الألسني، ليكون القصة الممسرحة نظاما قائما له قواعده وأسسه، الموصولة بالتعبير القولي والفعلي والذي يخضع لهذه القواعد أيضا. فالمخرج يسكنه دوما الاختلاف والتجريب، لأن الكتابة الركحية مسكونة بتواصل محتمل، يفاجئ الممثل بالوعي، وبالفكر، وهذه الدينامية الداخلية تمد الممثل بالصوت والمعنى، والآني والذاتي، لأن المخرج في تنمراته المشخصنة، يضع اللغة و الإدراك قريبة إلى المعرفة الداخلية، لأن توجهه كما ذكرت نحو إبداعات سيكودرامية جعلته يفكك الحقيقة التي يحملها الممثل عن ذاته ولغير ذاته، وبالتالي يستحيل التفكير خارج الاستعارات والرموز، والتي لا تترك نفسها أن تتحكم بها بواسطة هذه الشاعرية التي تؤسس الرؤية الإخراجية لجعل الممثل يسعى إلى الانتماء إلى الجمالية، لأنه كائن اجتماعي، وهذا الانتماء هو انخراط في الشحن والرغبة في التفاعل الجسمي، والانفعالي، فالمخرج الذي يؤطر هذا الجسد لكي يكون مقبولا بطرق كثيرة، يندمج في جماعة أخرى تقبله، لأن هذه النظرية النفسية والاجتماعية تفترض من قبل المخرج، أن سيكولوجية الممثل يدرك ذاته على أنه فرد، وأنه جماعة، وأن كلا الإدراكين يعد مماثلا للآخر في كونه تعبيرا صادقا وجوهريا عن الذات الممسرحة، فهو يمتلك توحدا مع النص والركح، لأن النصوص الممسرحة كما ذكرت تحاول إعادة قراءة المفاهيم الموظفة في النص، ويسمو بها أيضا لتأسيس ذاكرة جديدة في المشهد المسرحي الذي يعتمد كل العلامات لتأثيث الذاكرة الممسرحة على ذاكرة المعجم النصي.

   فالممارسة الركحية تمتلك طرائق الإبداع والتشكل، إذ أنها هي من تولد مفاهيمها عن الجسد الممسرح، والمخرج هو الذي يصنع الممثل، ويحوله إلى لعبة أيقونية ووقائع متمركزة لتمتلك حق تأسيس رؤية تمركزية حول الذات، وقد عمل حسن العلوي على توظيف جهازا استعاريا رمزيا، يستطيع أن يؤسس قراءة دراماتورجية، لأنها ترصد تطورات الفعل التمسرحي، وهذا يعني أنها قراءة مادية ملموسة ترتبط أساسا بشروط العرض.

   لهذا عمل المخرج حسن العلوي على تمسرح دلالات الأبعاد السيكودرامية اللعبوية، ليحس فيها الممثل كأنه الشخصية نفسها، ومتباعدا حينا آخر مع تحديد الهوية، وأن هذه اللعبة الدراماتيكية ما هي إلا نتيجة العمق التاريخي للممثل المرتبط بدلالات متشظية، مما يجعله ينهض بذاكرة متنوعة الدلالات، لأن لعبة التمثيل ليست وليدة الاضطراب السيكولوجي ولا فوضى التداول البيودرامي، بل نتيجة أصالة الممثل كما في مسرحية “حمار الليل” و “العين والخلخال”. فبداهة الممثل في هذه المسرحيتين يتسم بالتنوع و السيوع، وهو ما يجعل الممثل كما ذكرت يمتلك هيمنة على المخيلة والذاكرة في تشخيص الأشياء والمعاني، وهذه الهيمنة التمسرحية هي التي تبرر إطلاق هذه الهيمنة على الذات الممسرحة ليس بداعي التسلط النصي، وإنما لاقتراب هذه الماهية الجوهرية من أحد عناصرها، فالدربة والممارسة تؤثر في ماهية الشخصية المتعددة، إضافة إلى زيادة انفتاح هذا الجسد على المجتمع، فيكسبه نظاما لغويا ووصفة حضارية وثقافية ونفسية، وعليه فالبعد الأنتربولوجي يمده بالاتحاد والأفكار والرغبات، وذلك عن طريق الرموز التي تتولد عنده تلقائيا من الناحية التفاعلية، فالعمليات العلاماتية، والمشاعر المصاحبة للغة الدرامية، تؤدي بنا إلى إدراك الخطاب الذي يبدأ و كيف ينتهي، فاللغة الدراماتية هي موضوع ذو طبيعة ملموسة كما في مسرحية “بغداديات”. فالجمل الموظفة، والعبارات هي آثار للأسرار وإشارات للأحوال، وهذا الآثار الغائبي هو رسوم للذاكرة المعجمية، حيث أن الممثلين في استعداداتهم بدفعهم إلى تخطي التصور الذهني للوصول إلى الاهتداء الروحاني، فإن هذا التمسرح يحدث تباينا في معالجة القضايا الاجتماعية، وإظهار دلالة اللغة الركحية التي تنتج المعنى في ذهن المتلقي، وهذا ما إلى دفع إلى الاعتراض اللغوي الكلاسيكي الذي يغيب المرجعية الفرجوية والدرامية والجمالية، فالمخرج يرى أن تاريخانية الدراما تعني معرفة التنوع السيكودرامي الذي مر بها الممثل على توالي المراحل الإعدادية والتطبيقية، وكذا الكشف الذي تمثله هذه المسرحيات، فهي التي تفجر معرفيا، تاريخ الجمال الركحي، لأن معرفة هذا الأثر يختلف من حين إلى آخر، وهذا ما يعطي لهذه الروح الارتياحية روحا يطهر ذات المتلقي من كل تضليل كلاسيكي قصد الولوج إلى التمسرح الجمالي والفرجوي وحتى يكون مؤهلا لقراءته قراءة تأويلية من هنا نستنتج الذاكرة التمسرحية (النص – الممثل – المخرج) كمنطلق لمعرفة المسرح من خلال الممثل، بأنه ثقل يمارس على الممثل من طرف المخرج (التداريب)، ويمارس الممثل مع الذوات الأخرى لتشكيل فضاء تمسرحي، وهذا التجسيد الجسدي وتمثلاته الانفعالات اللاشعورية والشعورية، والحركات الإرادية البصرية، والسمعية، هي طاقة تحمل معرفة وتجربة ذاتية وجماعية. فالتجسيد غير سابق على قراءة النص، لابد أن يكون الممثل جاهزا إلى المستوى الذي يؤهله لأن يتعامل مع النص، فيما الأثر الركحي يكون نتيجة التقاء الممثل / بالنص. من هنا تتسع قاعدة / التمسرح للأثر، وهو مراعاة وقت التداريب، ومحاولة حالته السيكولوجية، وأوصافها الدرامية، حيث أن لكل ممثل أحوال خاصة به في قراءة النص، حيث يخضع إلى آليات هذه القراءة، بقدر خضوعه لمنظومة إيقاعية التي تشكل فيه الرؤى كدرجة عليا أريد بها الدخول إلى عالم التمسرح الركحي. لذا فالقيادة هي عملية تنظيمية اجتماعية ذات بذور درامية، تتصل بطبيعة الذات المتلقية وتراثه الثقافي، وأهم ما يميز الممثل هو الطابع الفردي المتطور في نظام المسرحي والمستوحى من فلسفة المخرج، لأن التمسرح النصي لا يتم إلا بالتوجيهات والأساليب والخصائص الإخراجية، لكونها مهارة غير منفصلة عن المعرفة الفنية والخبرة الجسدية وبالرجوع إلى المسرحيات التي ذكرتها أرى أن المهارات السيكودرامية هي نشاط روحي يستطيع الممثل أن يرقى بالنص الممسرح ليشكل فكره ووعيه، وليرسم العمق المعرفي والثقافي في نظرة الإنسان والعالم.

   فالمسرحيات التي تظهر على الوجود لا تكون بريئة، بل تحمل معها نقيضها ومرادفها، وقابليتها الاشتقاق النصي، وهو ما يدفع الممثل أيضا إلى الارتداد في مستواه المعرفي وليشكل أيضا فضاءا لتوليد الأفكار المتنوعة، حيث تبحث لها عن أنوية تمثيلية جديدة تناسبها دون أن تفقد هذه الشعرية خاصيتها ووظيفتها للاشتقاق الدرامي ثانية، والنشاط الإيقاعي التمسرحي، حتى يكون مؤهلا لتلقي المتفرج.

   إن أثر المخرج يمتلك وعيا تفجيريا يتجاوز الأثر الكلاسيكي، وفكريا جدليا، يكشف عن المناطق المضمرة في جسد النص، والشكل، لأن إزالة الحجب عن جسد الممثل5 لمعرفة المعنى المختفي دون أن يسقط في المعنى المعياري، وهذا الانفلات المعرفي في الأداء، الممثل يكون في تكون مستمر، والمخرج أمام هذا التحول المستمر يدرك صعوبة تقييده بالألفاظ وبالعبارات الأيقونية التي تتجسد كلغة جسدية حيوانية.

   فالعتبة الأولية ليست إلا إحدى الأسس الجوهرية التي يلجأ إليها المخرج من أجل أن يستقرئ هذه المراحل الجيدة، وذلك وفق وجهات نظر متنوعة، وهو ما يعني له أن الإخراج هو التوجه التجريبي الذي لا يتحقق إلا بالوسائل المسرحية الخالصة، وأنه الخطوة الحاسمة في تحرير الجسد من هيمنة الأدب وإمداده بالحرية الواسعة للتعرف على جسد الممثل إلى درجة أنه يمارس ملكاته الكبيرة.

   إن المخرج يمارس المسرح داخل المسرح كشكل إبداعي، ولغة التغيير النقدي، ويسعى هذا النهج إلى تجاوز الترابط الذي تقيمه بين صورة الدلالة اللفظية وهيأته الرمزية، فالإخراج هو انتزاع الأشياء من طبيعتها بما يمتلكه من حقيقة التغيير المساوية فيه، دون أن يؤدي ذلك إلى اختفاء العالم.

   فيبدو الإخراج كأثر ركحي، يفكر في إبقاء الاختلاف داخل بنية إيحائية، ليظهر فيها الممثل واضحا بذاته، ليسمح له بحرية التنوع بين المفاهيم كحركة حقيقية تنتج نفسها بوصفها إخفاء لذاتها، فالإخراج يسعى دوما إلى جعل صيرورة العلامة، تمتلك حضورا تشير إلى الغيرية التي تعني الانتقاء والقدرة على البقاء والتمايز، لأن ما يشير إليه يحمل في ذهنه الأثر الممسرح، وهذا ما يدفع إلى محو المسافة الميتافيزيقية من أجل بناء الدلالة الإيحائية القائمة على التقابل مع الآخر/ الممثل، فلا يمكن أن يتأسس الإخراج التمسرحي ما لم يمتلك قابليته على محو ذات الممثل الطبيعي، فالمخرج لا يحدد هوية الممثل إلا في انفصاله عن الآخر/ الممثل، وهذا يعني أن الأنا الممسرحة لها وظيفة من وظائف تحديد الممثل6، فهو يقوم بدور آخر في مداره بما يمتلكه من أثر تكويني، فليس هناك ممثل قار في المسرح دون أن ندرك إمكانية التكون المؤسس على الاختلاف، وهذا هو السبب الذي يدفع الأثر الممسرح لكي يرتبط بمن يظهره للعيان، في حين أن الممثل المضاعف، لا يمكن كما قلت إلا باختلافه لأنه يشكل مرجعية مؤسسة على الأنا / والآخر، وهو الذي يحدد الهوية الضرورية لكل شخصية دون تفاضل القيمة التي يحملها الممثل، لأن التساؤل حول البعد السيكودرامي، يفضي بنا إلى فضاء معرفي لا نستطيع بلوغ فضاءاته لقابليته للانفتاح على العوالم الممسرحة، فالانعتاق من الحدود الأرسطية الكلاسيكية القديمة تشكل كما قلت مطلبا مسرحيا يتأسس عليه كينونة كل مصطلح سيكولوجي و ثقافي درامي.

   إن أثر الإخراج احتمال في توليداته، لأن قيمة التوظيف السيكولوجي، تتحلى في النصوص الممسرحة، وهذا يجعلنا نحس بضرورته قبل أن يعمد المخرج إلى محو ذاته الأصلية (ذاته بذاته)، فالأصل الممثل هو جوابا لتساؤل عن مشروع التقمص، والتشخيص، والتطابق بين الأثر / والممثل، إن الممثل لا يمحو الأثر النصي، بل يشير إليه بشكل دائم من خلال الحضور اللغوي، والحركي، والتشخيصي، ولا يبعد أن يكون هذا اللاتواصل هو منطق الهوية المشخص، فالحضور إذن يتكون من مكونين هنا: النص والممثل والمخرج./ والممثل، والممثل / الشخصية، والشخصية / الممثل، فهذا الإدراك يشير إلى ازدواجية بنية قائمة على المقروء، والممسرح دون أي غياب يذكر أو قصور لأن لكل منهما انزياح وماهيته، فحضور الجسد / النصي، وجسد الممثل هو عملية تدوينية جديدة تتم وفق أسس فكرية وجمالية وتخضع المقصدية الفرجوية للتواصل، وللتساؤل، وللاختلاف، فالوعي الإخراجي وعي يقتصد ترسيم هذه الرؤية في حدود زمكانية وفي أدوار مشكلنة من الآثار والانفعال الذاتي والمعجم المدون، والإحصاء المعرفي لرفع اللبس عن كل العلامات اللانهائية، فالإخراج إذن هو السبيل للوصول إلى إدراك النص والمؤجل من أجل الوصول إلى لا نهائية الفرجة، لأن غياب ذاكرة النص عن الممثل هو غياب الإتقان والاندماج، غياب ينعكس معناه في نفس الشخصية حسب هيأتها واستعداداتها، فالشخصيات الموظفة في المسرحيات مقرونة بالدعوى بثقل ممتلئ بالدلالات الإيحائية بالجدلية التي تشير إلى الغياب والحضور وإلى أشكال المعرفة السيكودراما التي تدل عليها الشخصية الموظفة فهذه الأخيرة تتضامن مع الممثل كمرجعية تناصية لزم التمايز دون معرفة الأثر النصي الركحي.

   إن المسرحيات كما ذكرت تحتل حيزا دلاليا وتتسم برؤية بنائية نستطيع وفق اها الوصول إلى الفرجة، وتكون غاية المخرج هي وصف تجليات القائمة في عالم الركح، ليس للنص فيها مؤلف سوى الممثل الذي يريد التخلص من كل وصاية تذكر، مما يعني أن التواصل الركحي لا يتم إلا عبر مشاهدة الممثل القائم على امبريقية تجريبية قادرة على التواصل مع الفضاء في كل تحولاته، ولتكن هذه الدينامية هي الفرجة التي تنشد الأصالة والكمال الروحي، لأن تعدد المرجعيات هو تفكيك لهوية الانتماء النصي، وبناء لقدرة التشخيص، حينها يغذو البحث عن الممثل انشطارا وتوليدا جديدا يمارس حضوره بصمت الكتابة الممسرحة.

   فلا أصل للشخصية إلا وله انعكاس في التعبير التمثيلي، انعكاس يتجاوز مبدأ السببية في بناء العلاقات الدرامية وتداعياتها الفرجوية، فالإحالة في ارتحال والتزام تواصلي، وهذا ما يضع المتفرج في تداع مستمر، وحتى الجهاز المفاهيمي الموظف من طرف المخرج يتطلع بدوره للتعامل مع الممثل لكي يجعله يعي ذاته وأن يكون قادرا على تجاوز كل الثوابت النصية، فلا مجال للحتمية الطبيعية من أن تمارس سطوتها التي تؤهلها من تأكيد هيمنة المؤلف / المخرج بالصورة التي تناسب السياقات اللغوية والدلالية والجمالية، فالحتمية هي جعل الممثل يتنبأ بمقاصده وشعريته العالية لا تكون وصاية خارجية، بل يكون هو الفاعل والمنفعل والمؤجل والحاضر في السياق الركحي ودون إرباك أو إيهام. ومن تم فإن اختيار المخرج… يؤدي إلى توصيل المعاني ونقل التجربة الجماعية قصد التأثير في المتفرج، لأن تشخيص لحظة حضور الممثل / الشخصية فوق الركح هي قراءة في لحظتها اللاحتمية وتفكيك لمركزية الكلمة وغياب للحضور الميتافيزيقي النص، ومحو سلطة الممثل النمطي، فيصبح الممثل المبدع، معبرا ومجربا ومشخصا للفعل الذي يسعى النفس، وينير البصيرة ويكون قريبا من التعالي….. (بمفهوم الصوفية).

   فالتمركز هو الممثل المبدع لا يعني لنا حضورا للشخصية فضلا عن الكينوني المرتبط باللغة، والصوت، والحركة والذات المستشعرة لعوالم المطلق، يتبع الممثل أثار كل البنى العلاماتية بكل تنوعها وتعددها، ولا تتمركز عن مصادرة الدلالة، ولا تؤسس لنفسها سلطة مؤجلة لأن لغته تتضمن الاختلاف والتشتت لهذا المطلق، فالحركية العلاماتية لا تمثل خاصية إنسانية وحدها، بل تعبر عن غرض مقصود في ذهن المتفرج فتظهر هذه الخاصية التواصلية في أنها تنتمي إلى الجماعة التي تتسبب التداول في معرفة مقصدية المسرحية، لكن هذا التواصل الجواني مسكون بالإيحاءات، والإيماءات، والحركات، كأنها لغات العالم تسعى إلى تأسيس ذاكرة ركحية تنزاع عن اليومي والنهائي، لتكون مرجعيا بعيدا عن المتداول وهذا لا يتم الكشف عنه إلا بالفهم والإفهام، والتأويل، فالمكاشفة ورفع الحجب هو ممارسة واختراق جسدي، وتحقيق يبعث الألفة بين الممثل والمتفرج.

   فالمخرج حسن العلوي في هذه المسرحيات التي ذكرتها لا يتطابق فيه الفكر مع الحقيقة النصية، وهذا ما يظهر له أثناء استدعاء تلك الكثافة المؤجلة في النص، جاملا من هذه الأجساد أصواتا وحوارات مهجنة، ومؤسلبة، لتعطي حضورا للممثل بوصفه الصورة المتعالية، للإدراك والتواصل الركحي، فالمخرج يعقلن الخطاب الدرامي بخيال متداخل مع الحقائق النصية، مشكلا عالما لا يكون بأدوات الإشعارات ولا التنشيطات بل يكشف عن طريق الاستنباط الدلالي والإيحاء التجريبي، فتعامل مع نص المؤلف يعني الوقوف عند العتبات الخارجية، حيث يتطلب منه المعرفة والوعي والاستعداد لمعرفة طبقاتها، وكذا معرفة الممثل ويقظته، والفضاء وتجلياته، والجمهور وذوقه واتجاهاته، وهذا الفهم والاستبصار جعل المخرج يمثل هذا الذكاء بالفهم، لقياس القدرة على الانسجام مع الممثل، ومعرفة الأمور الاجتماعية والحساسية للمؤشرات، والاستبصار بأمزجة الآخرين، فتجربة المخرج تجربة اتحاد ومشاهدة، ومكاشفة لأسرار تجليات الممثل، لأن الإخراج وفق ما تقدم نراه قد تجاوز تفاصيل الأحداث، بحضور وعي يعي هذه التفاصيل وذلك وفق ترسيمة تجريبية، وجمالية، فالذوق الركحي لا يخضع للنقل الميكانيكي ولا يحتويه البعد التطابقي، بل هو إشارة تنتهي إلى تحديد المحو والفرجة دون الاستغراق في السطحية، ويزداد هذا التجلي في بسط التمسرح ليكون خطوط تصويرية التي تمكننا من استجلاء المضمون وطرح أحد أوجه التأويل الذي أفضى إليه الممثل وذلك بفعل التمسرح بكل قوته التلازمية مع بنية الكتابة الركحية، فالممثل حاضر في كل المسرحيات، يمتلك هويته وهيمنته وهو ما كان يسعى إليه المخرج في إعطائه خصوصيته لهذا التمسرح الذي يميزه عن الكتابة المسرحية الكلاسيكية.

   كما أنه يسعى إلى الإعلاء من شأنها لتجد حضورها كفعل، وحركة، وإيماءة، ويتناوب فيها الصوت / والحركة، والجسد / واللغة، والحضور / والغياب، والمؤجل / والحاضر، والتفسير/ والتجريب، والذوق / الجمال، هذه الثنائيات كعلامات مادية، ورمزية تسطر الكلام لتتجاوز سمة المعنى والنهائي، ولتغدو كتابة جسدية تنوب عن مقصدية المؤلف، وتغلق أفقه، ما يجعل الاستقلال الدلالي، والجمالي والجسدي بالواقعة الركحية، كتابة التزامية بالقصد الذهني، والجسدي واللغوي وبالبعد الحواري الممتد بين الممثل والمتفرج، فالعلامات هي تحرير الكتابة الركحية من وصاية القصد الماضوي المرتبط بالإحالة الممكنة، والمتعددة، فتأسيس إحالة جديدة لدى المخرج حسن العلوي هو مناهضة المركزية التأليفية وزرع إنتاجية التي تتراوح بين الانعكاس والتجريب، وبين البعد الأنتربولوجي، والأداة التي تبرهن على انتشار التعدد والميولات التغييرية، ولهذا فإن المكون التجريبي المسرحي هو حالة التفسير، والتفكير في القضايا تحليلا ونقدا وهيمنة في تفسيرات الواقع، فالتفكير السيكودرامي يحل الانفعال الباطني محل العقل لتيسيرها وتغييرها، ويصبح قادرا على المجابهة والسيطرة على الواقع الممكن وتشكيله وصولا إلى صناعة المصير7.

   ظل المخرج في تجريبه يحمل أكبر تكثيف ممكن من الإخراج، فهو المرآة التي تجسد روح الممثل كحضور وذات نسبية ومتطورة، لا تتكرر أصلها، بل تتعرض للتأويل والاختراق، ولا تبقى أسيرة (المنطق، والمثل)، إذ تتأول حسب توجهاته وفهمه لما ينبغي أن يكون، لا ما هو كائن، ولأن حضورها يبقى بارزا حتى تنتهي المسرحية، لأن كل كتابة ركحية هي مؤولة وممتزجة بين الكتابة، والقول، يسميها دريدا بالتراتب العنيف8، فالممثل كما ذكرت يمتلك حضوره على مجمل المشهد المسرحي، ويرسم مسارا مشهديا فرجويا بطريقة مختلفة لهذا النموذج الكلاسيكي، وجعله يتشكل في صورة بوليفية وحوارية متفتتة، ويفرض حضوره كمفهوم جديد للكتابة الركحية، إن إخراج حسن العلوي المراني هو علامة ينبغي اكتشافه من خلال الإرجاء، والاختلاف حسب مفهوم جاك دريدا، لأن محو الثابت لا يشير إلى دال متعال، بل يمثل حضورا للمثل كعلامة مستمدة من السياق التعبيري والتركيبي فهي (العلامة) هي تطبع هذا الأثر الممسرح بالانهائي النصي، ويعمل كزمن إيقاعي يشير إلى حقيقة نسبية غير مطلقة، والتي تعتمل في داخل الأنساق الفضائية الركحية، كالرقص والموسيقى، والإيماءة و الحركة، فالأثر الجسدي يحرك مخيلة الممثل نحو التقمص الذي يطبع العالم والوجود، كميتوس الذي يدعي لنفسه امتلاك الحقيقة، ما يعطي للكتابة الركحية حضورا جسديا، ولغويا، و تمثلا يتجاوز المغلق والنهائي ويجعله وعيا غير مطابق لأثره، فقراءة المخرج يدمجنا فيما يقول جاك لا كان في المرآة الثلاثية العناصر: (الخيال – الرمز والواقع)9، وعلى هذا الأساس يعمق الرؤية بين هذه العناصر التي تنطوي على عمليات ضمنية وجوهرية، ما جعل الخيال يقيم تعالقا مع الأجساد كبعد انعكاسي غير نرجسي أي أن الأجساد تتوحد عن طريق اللغة، والجسد، والحركة، والموسيقى والإنارة والإيماءة لتصبح مكونا من مكونات العرض المسرحي، فالمسرحية لابد أن ترتبط بالمكون الكلاني الذي ذكرته بالإضافة إلى البعد المقصدي وهذه الرؤية الابستيمية تسعى إلى توظيف مؤشرات حضارية وثقافية، لتكون أرضية خصبة و قابلة أن تستوعب الجوانب الأخرى الغير اللغوية، وبالرغم من أننا نتصور أن في تجلياته الدرامية والغير الدرامية، فإنه ينتمي إلى الطقس نفسه، وإلى التكوين اللغوي والاجتماعي والثقافي، إذن يسعى المخرج إلى أن يدرك الصيغ الجمالية والكلامية المتنوعة لكي يسير أغوار اختلاف دلالات المجتمع كما في مسرحيات: ليام أليام، وهي والقايد، والساروت، وإرث من دم، فالاختلاف التيمي، والحركي، والعلاماتي هو إدراك من طرف الممثل القادر على الاحتذاء والإبداع المهاراتي، والاتصال الجسدي ‘’bodily contact’’، والوظائف الكلامية، فهذه القدرة الدرامية هي الوسيلة من وسائل الفعل والتأمل والتواصل الودي ibatic communim، بين الممثلين، يجعل المتفرج يفصل بين ما يطلق عليه القوة البلاغية للفعل الكلامي و قوته التأثيرية للفعل حسب تعبير جان أوستين، وهذا يعني أن المخرج يدعونا إلى الانصات إلى الأصوات الممسرحة، والتي تمتلك لكل مسرحية مصادرها الخاصة، وجهازها المفاهيهي، ما يعني أن البعد الإيديولوجي الاجتماعي يؤسس بنية جنسانية ليعطي لها رؤية برانية التي تنم عن رغبة تتحقق من خلالها استرجاعات التجارب الأولى تبعا لقوانين العملية الاستعدادية، لأن جهد المخرج في مادة محورية الإخراج حول فكرة جسد النص، وجسد الممثل الركحي، يجعلها في مكان الصدارة في البرمجة اللغوية والنفسية والاجتماعية، ويقول لا كان في هذا الصدد “إن ما تكشفه تجربة التحليل النفسي هو بنية اللغة بكاملها، فالأمر يتعلق بتوصلنا إلى لغة رغبتنا فالإنسان في تكلمه عن مكيوناته يبعد عن نفسه المرض، وخاصة المواضيع التي أعيقت عن التعبير أو الإشباع، فأصبحت مواضيع ضمن حيز الرغبة وتأخذ أشكالا عدة فالرغبة تكمن في الفكر10، فالرغبة السيكودرامية عند المخرج تتشكل ضمن تاريخ الأشكال التمسرحية، لأن النظام الرمزي يدل على نظام الإخراج الذي يتعامل معه التحليل بعده كونه يقصد باستعمال الرموز والاستعارات إلى تقريب بنية اللاواعي من بنية اللغة الدرامية11 وكيف أن الممثل ينخرط في النظام الرمزي لوجوده، فمن خلال مصطلح الإخراج يبين المخرج سلطة درامية لا تقبل الاختزال إلى تحولات الممثل الفعلي للخيال، لأنه يسنن القانون التمثيلي والرمزي لينخرط الخيالي، وينظمه ويجبره على الحركة الركحية، لأن الولوج إلى المسرح معناه الانفصال كما يدعوه لا كان الواقع الذي لا يمكن بلوغه، فعند انفصال الممثل عن الشخصية يستطيع الحصول على البديل المتحرك من مجاز إلى مجاز من دون أن يندمج فيه أو معه، وهذه العملية التوسطية تحقق للذات الممسرحة عبرها تباعدا عن المغلق، حيث يتيح له التوصل إلى التغلب عن كل العوائق التي أصبحت مظلمة بفعل الاندماج، وكما ذكرت أن لعبة التمسرح تمثل ميلاد اللغة الركحية واستقلاليتها عن الواقعي لأنها تسمح لنا أن نفهم كيف أن اللغة الإبداعية الممسرحة تباعدنا عن المعيشي بترميزه وإيقاعه الجمالي والتواصلي، فالممثل ينسج بأحاسيسه وبمشاعره قدر المسموح له للعثور على شكل التعبير الصحيح الذي يعبر بدقة مطلقة عن الشعور المطلوب، والفكرة المطلوبة والفعل المطلوب لإيصال الشكل فيما بعد إلى أقصى ما يمكن التعبير12 فالممثل بما يحمله من معرفة وحلم، وممارسة يسمح له لكي يكون سيد روحه، وروح الخشبة، فيرسل إلى المتلقي رسائل من الحياة الاجتماعية والثقافية13، حيث أننا نجد الطقسية والعاداتية يكون فيها الممثل حاضرا ذهنيا وفكريا، وقادرا على حضوره الجسدي المتوازن كحالة استمرارية متيقظة من خلال التفاعل الحركي، واللغوي والأدائي وهذا الإحساس هو نقل المعرفة إلى المتفرج، ويقول مايرهولد في هذا الصدد “إنه العنصر الرئيسي على خشبة المسرح وكل ما هو خارج عنه مهم قدر كونه ضروريا له14 فهذه العملية هي تفكيك هذه الشفرة المسرحية لمعرفة البناء الخفي، والظاهر، وجعل هذه المهارة غير منفصلة عن المعرفة الفنية الدرامية والخبرة الذاتية، يعد الفهم من الذكاء الفرد والجمالي على الرغم من التمايز إلا أن المخرج يجعل قدرة الممثل في تفاعل مع الآخرين من خلال فهم أفكارهم ومقاصدهم النفسية، مما يساعد على التوظيف، والتحويل بحكمه في المواقف، وهنا يكمن الفرق بين مؤلف المخرج، والمخرج المبدع، إذ يكون الذكاء هو الاستبصار العميق بجانب فهم مشاعر وسلوك الممثلين، و الاستبصار بأمزجتهم، بحيث يمكن التعرف من خلالها في المواقف التي ينجزون بها تداريبهم. ولهذا فإنه يصوغ صياغات جديدة لخبرته ومجاله الإدراكي، مما يضفي على المسرحية طابعا جماليا ونموا نقديا و تهذيبيا سيكولوجيا، فالحساسية التجريبية عنده (المخرج) تجعله يفكر في تقويم التعقيدات وتشخيصها، والقدرة فلى التمييز في العلاقات بين الممثلين وهي تشكل قدرة اجتماعية، ويصر المخرج أن هذه القابلية التجريبية، فالاختيار التجريبي هو عقلنة السلوك المشكل وتتبيط السلوكيات الجديدة لدى الممثل، وهذه التدخلات هي التي تصحح هذه المدركات الخاطئة عبر المعيار التجريبي الذي يكون مفيدا بشكل أكبر، وتشير المعطيات الميدانية أن ظاهرة الإخراج هي تقنية ذاتية وجماعية وتعد أيضا الخطوة التي تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في مسرحة النص، كما تلعب دورا في الوقت نفسه في تكوين اتجاهات تجريبية، لا توجد بين الأجزاء الفيزيولوجية (السمع، والصوت) والأجزاء النفسية (اللفظ، المفهوم)، وهذا التنوع التشخيصي المنهجي يعني التعامل مع المخرج بشكل مستقل بذاته، مما يجعل التصنيف غير ملائم، مما يؤدي إلى تركه و استخدام المفاهم الجديدة لفهمه وفي الوقت نفسه قد تكون معرفتنا بشكل تشخيصي يؤدي إلى اتجاه متنوع، وهذا الحكم لا يكون منطقيا إلا بالاقتراب من تجاربه التي تعد غير نمطية في إخراج مسرحياته الممسرحة، فهذا الإدراك هو التجريب الترابطي والتدعيم الدوري الذي يتكامل مع الأدوار الأخرى، لذا يتخذ حسن العلوي من هذا التجريب موقعا استراتيجيا، من خلاله يعرض على المتفرج شطحاته الركحية ككتابة جديدة تعي وجودها المسرحي وتوازنها، “لضمان من الضمانات الرئيسية لتشد المتفرج و توريطه في العمل المسرحي”15 فالمخرج يجعل من هذا التجريب موضوعا، حداثيا جديدا، وعنوانا يلغي المركزية، والتسلط ، ليمسك الاتصال والانفصال كإرشادات مسرحية، وكحوار وكشخصيات، وأمكنة، وأزمنة و غيرها…

   فالاختلاف في التحديث والتجريب هو خدمة التوجه المقصدي والإبداعي، لأن المخرج يؤمن بقدرات الممثلين وبحضور الأجساد، لأن كل ما يتطلب منهم هو الحضور على الركح، كتجسيد للشخصيات الممسرحة، وهذا ما نراه عند ستانيلافسكي16 الذي يمد الممثل بمجموعة من العناصر التعبيرية لكي يجعله يقوم بعملية الهضم والفهم لأنه هو دائرة المركز والإبداع، وبما لديه من مخزون معرفي سابق، كل هذا يتفاعل لينقل لنا عرضا مسرحيا يخاطب من خلاله المتفرج، فهذه العملية الإخراجية لدى حسن العلوي جعلت الممثل بنية مفتوحة وليس وعاءا، أو مخزونا ينبغي أن يملأ، بل هو الكائن والممكن، فهو الذي يقربنا من خلال الحوار والتفاعل الجسدي (كما في بغداديات، وأساطير معاصرة)، وكل الأيقونات الأخرى المؤثثة للمشهد المسرحي ولا شك أن حضور الممثل على الركح يظهر من خلال هذا الجسد، فهو صورة غير محاكاتية، ولعبة تخاطب الجمهور دون الاستسلام المباشر حسب تعبير مايرهولد، فالممثل حسب حسن العلوي هو الذي يصنع نفسه من خلال التعليمات التي يمتلكها مع العناصر لتجعله قادرا على القيام بالأداء التمسرحي، فحضور الممثل كجسد وحركة، و لغة تجعله يتواصل، ويقول أنتونان أرطو في هذا الصدد “إذا كان للموسيقى تأثير الأفاعي، فليس هذا لأنها تنقل إلينا الأفكار الروحية، بل لأنها الأفاعي تكون ممتدة ومضطجعة على الأرض، ملتفة لفات طويلة، وتلامسها أجسادها على طولها تقريبا، إن الذبذبات التي تتوغل في الرمال تصلها كرسالة طويلة جدا ورفيعة، أنا أنوي أطبق على المتفرجين ما يفعله محبو الأفاعي، بحيث أجعلهم يصلون حتى إلى تلك النزوات الأرق والألطف عبر إحساسهم بها جسديا”17، إن هذا التعبير لدى هذا الممثل هو عبارة عن لغة إيقاعية، يجيش بها لا شعوريا، لتعبر عن قيمة إيجابية أو سلبية، وأن يكون مترجما لحالاته الشعورية، وهذا التوليد النصي المضاعف هو الذي يدفعنا إلى الاندماج مع الحركة والإيماءة والموسيقى، والإضاءة، والتعبير عنها إما بالكتابة، أو بالنقد، أو بالتأويل فالممثل حسب ستانسلافسكي هو الذي يمد المتلقي أو المتفرج بالمعرفة من خلال صورته الجسدية واحتمالية الأحداث، فهو المختبر الذي يدور عليه العمل المسرحي، ولابد أن تكون هناك عناصر مساعدة له لتفجير حركة الإبداع الخيالي18 فالأثر الدرامي هو ترجمة النص، وتنشيط الروح، ورفع جاهزيته إلى أعلى يؤهلها لأن تتعامل مع المرئي، فيما الأثر الممسرح يكون نتيجة التقاء القارئ بالنص المضاعف، من هنا تتسع قاعدة التمسرح فلا يمكن لهذه المحاولة التجريبية أن تدعي لنفسها الوصول للمعاني النهائية، فهي تعي أنها لا وجود لنهاية ثابتة، بل قراءات وبياضات يملأها بما يرتظيه المتلقي، فهي تمتلك البعد التأثيري لأنها جزء منه، لأن قراءة حسن العلوي للمسرحيات هي إعادة قراءة المفاهيم، والمضامين لأنها تسعى إلى تأسيس ذاكرة جديدة للمسرح المغربي19، لأنه في إخراجه يعتمد تحليله على الجسد، واللغة والحركة والمعجم النفسي لتأثيث دلالة الركح، فهذه المحاولة الإجرائية لا تدعي لنفسها الوصول للعرض النهائي، فهو يعي جيدا أنه لا وجود لقراءة تجريبية نهائية، فهو يؤكد أن الإخراج الذي حاول الإمساك به هو بمثابة رؤية جديدة و حداثة تجريبية وشكلا قرائيا يرسم معالم الفضاء الركحي، لذا اتخذ من هذا المسرح بوابة شعرية الإنسان/ والواقع/ والوجود.

   فموقف المخرج من الوظيفة الإبداعية المسرحية الكلاسيكية، يحاول تحويلها بالوظيفة الميدامسرحية التي تشكل بؤرة جديدة في الزمكان، لأن الإبداع المسرحي هو مؤشر وامتداد للشخصية والحركات المسرحية تبعا لوظائفها الدالة على الشخصية20. بهذه الحركات المرتبطة بالتعبير، والإيماء، والإثارة، تجعل الممثل يعبر عنها تبعا لبعدها الفيزيولوجي أو النفسي، وهي أيضا عبارة عن قوانين إجرائية صالحة لتفسير المضمر في هذه الحركات، وقد حددها جاك لوكوك في كتابه “شعرية الجسد” فهناك:

  • التوازن الحركي
  • ليس هناك حركة بدون نقطة البداية
  • الحركة تظهر لنا ما هو ثابت فيها
  • الحركة تتواصل بدون انفصال ولا انقطاع
  • الحركة لا تولد بدون فصلها
  • الحركة التي بدأ فيها الممثل هي بدورها نقطة البدء والوصول النهائي21

   ووفقا للمخرج يعيد هذا القول الدرامي للكسر والانفلات من الأحكام القيمية ليركز على العمليات الاستراتيجية التي تستخدم المثير والاستجابة لذاكرة المسرح المهددة بالغزو من طرف النقاد المحافظين والنصبين، وأيضا الانتقال من النقاش كاكتشاف للمبادئ الجوهرية المعروضة في المسرحية إلى النقاش كبناء اجتماعي ونفسي الذي ينطوي على تشكيل متكامل متعلق بالأفق، فالقراءة الإخراجية هي تجريب فني درامي يظهر كحقيقة ليغدو مفتوحا على كل المسائل الحداثية التي تعكس الذات، فهذه الأخيرة بوضعها عاملا جامعا يعمل كأساس للمعرفة وللتجربة الجمالية القادرة على نقل الفرجة، والإحساس بغية تحديد الرؤى النقدية.

   فهذه الخاصية الإخراجية هي كتابة تعيد الذات المنكتبة بطريقة تذكرنا بفكرة المسرحي الخالق للفجوات التي أخذت في الاتساع بين المجتمع الثابت، وكيف يعيش الإنسان، لإيجاد وسائل تساعد المتفرج على تحويله وتغييره، فالمخرج يحاول تأسيس سردية درامية يعارض فيها السرديات الكلاسيكية بوعي مادي تاريخاني، لتصبح القوى الاقتصادية والسياسية والفكرية أساس لتشكل التجربة الدرامية التحليلية، وتشخيص حقيقة وضعية الإخراج المسرحي عند هذا الفنان والعبقري.

المراجع:

1- Patrice pavis <<dic du théàtre>> ed social Paris 1980, P96.

2- كونستانتين ستانيسلافسكي، إعداد الدور المسرحي، ترجمة شريف شاكر، منشورات وزارة الثقافة، دمشق 1983، ص46 – 47.

3- Jean Jacques Roubinie l’art de conéden PF 1er ed 1985, P60 – 61.

4- Gacques le coq « Le coup poetique » actes sud, 1997, P76 – 77.

5- محمد الكغاط، تفاعل الجسد والنفس، الثقافة المغربية، ع8 – 1999، ص80.

6- محمد الكغاط، المسرح وآليته، ص23.

7- سناء عيسى، الداغستاني، “علم النفس الاجتماعي”، ط1، لبنان – بيروت،2017، ص378.

8- رامن سلدان، “تفكيك النظم المعرفية”، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ع5، 1992، ص68.

9- سناء عيسى الداغستاني، المرجع نفسه، ص298.

10- سناء عيسى الداغستاني، المرجع نفسه، ص294.

11- محمد الكغاط “حول تجربة الكتابة المسرحية بالمغرب”، ملحق جريدة الاتحاد الاشتراكي، ص296، 1989، ص3.

12- بوريس زاخوفا، “فن الممثل والمخرج”، ترجمة عبد الهادي للراوي، الأردن – عمان، ط1، 1996، ص23.

13- حسن المنيعي، الجسد في المسرح، المركز الدولي لدراسة الفرجة، ط2، 2010، ص45.

14- نديم المعلا، الجسد والمسرح، مجلة عالم الفكر، المجلد 37، ع4، الكويت، السنة 2009، ص132.

15- سعد الله وتوس، “بيانات لمسرح عربي جديد”، دار الفكر الجديد، بيروت، 1998، ص116.

16- يوسف التيبس، تطور مفهوم الجسد من التأمل الفلسفي إلى التصور العلمي، مجلة عالم الفكر، المجلد 37، ع4، المجلس الوطني للثقافة والفنون.

17- نديم المعلا، الجسد والمسرح، عالم الفكر، المجلد 37، ع4، 2009، ص51.

18- نوال بن ابراهيم، دينامية التلقي لدى عالم الفكر.

19- محمد الكغاط، المسرح وفضاءاته، البوكيلي للطباعة والنشر، القنيطرة، المغرب1996، ص187.

20- جوليان هلتون، نظرية العرض المسرحي، ترجمة نهاد صبيحة، الهيئة العامة للكتاب 1994، ص158.

21- Jacques le coq <<Le corps poetique op cit P101 – 102.