عـن الصـدف والحتميات فـي إطـار قضـايـا د محمد الفايد!!! ح.1
الوطن24/ الدكتور محمد وراضي
أظن أن السيد عصيد وكل من معه في السياق الفكري المشترك كالسيد أيلال، يعرفون كيف أن هناك تمييزا واضحا بين الصدفة والاختيار الحر الواعي عند الإنسان المهتم بالأبحاث العلمية، والفلسفية، والسياسية والاجتماعية، والنفسية بكل تأكيد. إنه تمييز لا بد من حضوره لدى المؤرخ، ولدى عالم الاجتماع العام،وعالم الاجتماع الديني، ولدى العالم الفزيائي، والكميائي، والإبستمولوجي، ولدى عالم القانون والبيولوجية…
يعني أن حضور الصدفة ومرادفاتها لدى هؤلاء العلماء الباحثين، لا يدعم النتائج التي ينتهي إليها أي عالم في أي مجال، إذ الفرق شاسع بين الصدفة، وبينالإقرار، أو التدبيرأو التصميم. وبعبارة أخرى، هناك تمييز بين حدث يحدث بدون ما سبب محدد معروف، وبالتالي يتناقض تمام التناقض مع كل نظرية حتمية تحدد لكل حدث سببا بعينه.
فالعلماء إذن يرفضون الصدفة بالمفهوم العامي كحدث يقع بشكل مفاجئ، مثل التقاء صديقين في مكان ما دون ما موعد محدد يتفقان عليه. وهو ما يطلق عليه لدى العامة من باب الدين “القدر”. غير أن الدراسات العلمية الموضوعية، لا تدخل الغيبيات في حسابها؟ ونستحضر هنا قولة الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، حيث إن أستاذي المصري الدكتور نجيب بلديـ في تواصل كتابي معه ـ طلب مني أن أحلل مقولة كانط الفلسفية هذه: “علينا أن نضحي بالعلم في سبيل الإيمان”!
والمقصود بالعلم هنا عند كانط هو كل ما يتعلق بالغيبيات أو بالعالم الميتافيزيقي. إذ لا مجال لأي ادعاء لدى أي مدع بأن العلم بها ممكن بالإدراك الحسي أو بالإدراك العقلي المنطقي معززا بالتجارب المخبرية. فكان لا بد لنا من الاعتراف بأن إدراك الميتافيزيقيات بعقولنا غير ممكن، لأن عقولنا محدودة أو نسبية! ولأنها إنما هيئت للتعامل مع كافة الموجودات العالمية المادية والحسية في حدود تلك النسبية الواقعية الموضوعية بأدلة لا تحصى!
وما ندركه بالحواس الخمس يفرض علينا التسليم إيمانيا بالغيبيات، أو بالماورائيات التي لا نملك من الأدوات ما به ندرك كنهها أو حقيقتها. وأنا شخصيا مقتنع بأن ما وراء الطبيعة مستحيل علينا إدراكه وفهمه على حقيقته، وكأنني هنا أناصر المفكرين الإغريقيين، خاصة وأن أفلاطون تحدث عن عالم المثل الذي توجد فيه كافة الأشياء، أو كافة الموجودات على حقيقتها!
ويقال: إن المصادفة هي الأمر الذي لا يمكن تفسيره بالعلل الفاعلة ولا بالعلل الغائية، ومن جملة ما قيل بخصوص المصادفة، أو الصدفة: خلو النظام الكوني من الإله، وهو قول الملاحدة. بينما العالم بكل ما فيه من إتقان وإبداع باهر، لا يدل بتاتا على أنه وجد عن طريق الصدفة، وأنه ليس له موجد أوجده، ولا يمكن تفسيره بأنه لا علة فاعلة له ولا علة غائية، وهذا ما يجعل البون شاسعا في نظري الشخصي بين الفايد وبين من يحاول بعض مهاجميه جعله بالقوة واحدا منهم.
وأساليب الدراسة في العصر الحديث، تثبت كيف أن الظواهر الكونية برمتها (النجوم والكواكب، والشمس، والمطرألخ)خاضعة لقوانين منظمة غاية في الدقة، وأن الوصول إلى تفاعل هذه القوانين ينفي وجود الصدف، وإلا ما أمكن التنبؤ بصددها حتى ولو اتصف هذا التنبؤ بالنسبية التي تغطي كافة العلوم، إلى حد أن تاريخ الأبحاث الفلسفية والعلمية، تقدم دلائل من الصعب حصرها، ففي الماضي البعيد لدى الإغريق بالذات، كان سقوط الأجسام يفسر بوصول الثقيل منها من أعلى صومعة ما إلى الأرض، بينما يتأخر خفيفها في السقوط. ثم اتضح مع نيوتن أن هذا التحليل، أو التفسير على خطأ، مما يعني غياب تفسير عقلاني تجريبي لسقوط الأجسام على العموم!في حين أن سقوطها إنما يقع بفعل الجاذبية!
فإن أكدت الفلسفة قبل العلم على ضرورة وجود علل فاعلة وعلل غائية للأشياء أو للموجودات الكونية المادية، فإن ما أكدته، وما أكده العلم بعدها، هو ذاته ما يدل على وجود الله. فإن وقفنا عند حدود العلل الأربعةالمعروفة لدى الفلاسفة والعلماء، لصح أن نناقش الملاحدة بدلائل دامغة بها نصل إلى حد إفحامهم فيما يدعون، بحيث إننا نصل بخصوصهم إلى حد اعتبارهم ضالين بالمفهوم الديني أو بلغة الكتاب والسنة!
ولتكن البداية بالعلة المادية، ولنبسط مدلولها بمثال الطاولة التي نكتب عليها، أو نتناول أغديتنا فوقها. فعلتها المادية هي الخشب الذي صنعت منه. وعلتها الصورية شكلها الذي نتوقع أن يكون متنوعا بكل تأكيد. وعلتها الفاعلة تتمثل في النجار الذي صنعها. في حين أن علتها الغائية هي الهدف أو الأهداف التي صنعت من أجلها. وبما أن الكون الذي هو عبارة عن نجوم، ومجرات، وهواء، وكل ما يمكن أن يدخل في إطار مداركنا الحسية على وجه الخصوص، فإن العلل الأربعة المذكورة قبله تحكمه كما تحكم الطاولة، أو أي موجود مادي من صنع الإنسان، إذ لا بد من التساؤل بخصوصه ـ أي العالم ـ عمن أوجده؟ خاصة وأن الصدفة كما نقول ونكرر لا محل لها من الإعراب في العلوم التجريبية، إذ لا بد أن نحاول علميا وفلسفيا تحديد موجده أو صانعه، دون أن يغيب تصورنا للطاولة عن أذهاننا، خاصة وأنها لم تكن موجودة بالصدفة، وإنما لها صانعها بكل تأكيد.
والكون برمته، أليس له موجد أو صانع يخرجه من العدم إلى الوجود؟ وفي القرآن الكريم وردت مادة “صنع” بصيغ مختلفة في سور متعددة، نكتفي منها بما ورد في سورة “النمل”، حيث يقول الحق سبحانه: “وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء، إنه خبير بما تفعلون”.
وقبل قيامي بتقديم توضيحات ضرورية لهذه الآية القرآنية نلقي سؤالا وجيها على عصيد وأيلال، وجميع رفاقهم في نفس الدرب، أو في نفس الحزب: هل الجبال جامدة بالفعل كما ننخدع نحن بالنظر إليها صباح مساء؟ والإنخداع معناه انطلاء الحقيقة الواقعية علينا، إلى حد اغترارنا بما نشاهده؟ والاغترار آت فلسفيا وفكريا من أخطاء الحواس أو من أخطاء العقول، أو من أخطاء الحواس والعقول في الوقت ذاته؟إذ كثيرا ما نشاهد نحن ثلاثة أصدقاء جسدا من بعيد فنختلف في تحديد هويته، أكلب هو؟ أو نعجة؟ أو خروف؟ بحيث إنه لا نصيب جميعنا الحقيقة، وقد يصيبها واحدا منا ويخطئها الباقيان!
فليخبرنا إذن عصيد وأيلال ومن معهما في نفس الحزب، هل الجبال تتحرك كالسحاب كما ورد في القرآن؟ أم إنها جامدة في مكان لها لا تتجاوزه أوتتحداه؟
إن لدى أي ملحد مغربي إجابتين: الجبال تتحرك بالفعل مما يدل قطعا على كروية الأرض، وإما أنها لا تتحرك؟ فإن جاءت إجابته موافقة مع ما في الذكر الحكيم فكيف يدعي أيلال وعصيد أن القرآن من محمد لا من الله؟ وحتى إن هما ادعيا أنه من إنشاء محمد، فكيف وصل محمد إلى حقيقة علمية واقعية لا يستطيع أي عالم تفنيدها، وشبه الجزيرة حينها خالية من مدارس وكليات ومعاهد؟ وإن هما ادعيا العكس، أي أن الجبال لا تتحرك، فإن العلم لهما بالمرصاد، نعني أنه لا يتفق معهما، وإنما يسخر منهما المشتغلون بالفزياء على وجه الخصوص!
وقبول العلم بكون الأرض كروية، لزم قبول الملاحدة بأن الجبال تتحرك، ومتى قبلوا بكونها كذلك، أذعنوا لما ورد في الآية التي قدمناها في الحين، بينما لم يدعن المتفلسفون المتعنتون عندنا جملة وتفصيلا لما ورد في القرآن كله، إلى حد أن جلهم ذهب إلى أن القرآن من وضع محمد؟ وإن كان الأمر هكذا، فلنسلم بأن محمدا حقق تقدما في المجال العلمي الوضعي قبل العلماء المعاصرين بقرون وقرون، أي إن ما وصل إليه لم يصل إليه غيره من علماء عصورنا المتأخرة الذين هم وراء اختراع أخطر أنواع الأسلحة حتى الآن؟
فخالق الكون إذن أو موجده، هو الذي جعل حركة الجبال شبيهة بحركة السحاب، مع تأكيده عز وجل على أن وضع هذه وتلك من صنعه أو من صناعته، وصناعته هذه متصفة بالكمال الذي هو ملازم لأية صناعة متقنة، حتى يتضح الفرق الشاسع بين ما صنعه الله وما صنعه ويصنعه البشر، نقصد مخلوقا عاجزا ضعيفا من مخلوقاته سبحانه، والذي يتصف بنسبية محسوسة في أي عمل أو في أي تفكر يقدم عليه، ثم يدعي معرفة كل شيء يتعلق حتى بوجود العالم، إنما متى وكيف؟ وإلا فما الذي يعنيه قول عصيد: القرآن أساطير وخرافات؟
إن الرجل المتفلسف هنا يهذي! أي إنه تكلم بغير معقول من الكلام لمرض أصابه! والهذيان كلام مفكك لا يفهم ولا معنى له. وإلا فهل القول بتحرك الجبال كتحرك السحاب أسطورة وخرافة؟ لكن العلم التجريبي يؤيد ما جاء من عند الله ويكذب من يدعي أن ظاهرة من ظواهر الطبيعة الوارد ذكرها في القرآن مجرد خرافة؟ والأدهى والأمر حكم هذا المتفلسف المزعوم بأن القرآن كله جملة وتفصيلا أسطورة؟ ونحن في تدخلاتنا سنفضح بأدلة قاطعة عكس ما يدعيه، معتمدين على قوله سبحانه كمنطلق موثوق به: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”!
يقول الدكتور “وتز” عميد كلية الطب بباريز، وعضو أكاديمية العلوم بها: إذا أحسست في حين من الأحيان أن عقيدتي بالله قد تزعزعت، توجهت إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها”! بحيث يكون ما ادعاه عصيد ومن معه في غاية الانهيار والرفض التامين عقلا وعلما لا سوفسطائيا كما هو واضح!