لجنة النموذج التنموي
الوطن 24/ إعداد: محمد أهيري*
تقـــــديــــم
إن التنمية هي فعل يستوجب التدخل والتوجه من قبل الدولة بما تملكه من إمكانيات، خاصة الموارد المالية، والبشرية، ثم تحمل المسؤولية عن مدى نجاح تدخلها أوفشله، بمعنى أن التنمية لا تأتي بصفة تلقائية ومحصلة لظروف معينة، بل تأتي عن طريق عمل منظم يكون فيه الإنسان العنصر الأساسي والفاعل الرئيسي عن وضع مجموعة من التدابير اللازمة لإحداث التنمية. وتهدف التنمية إلى تحقيق مجموعة من الأهداف من بينها زيادة الناتج الداخلي، ورفع مستوى المعيشة، وخفض نسبة الدين الخارجي والداخلي، وكذا نسبة العجز في الميزانية، ثم تقليص التفاوتات الإجتماعية والمجالية من خلال توزيع الثروات.
ولهذا السبب فقد عملت الأمم المتحدة على إنجاز خطة أهداف التنمية المستدامة لسنة 2030 من أجل تأهيل والرقي بالجانب التنموي، وذلك من خلال إدماج المواطن في صناعة القرار العمومي وبصفة خاصة القرار التنموي، ليبقى الهدف الأساسي، هو إقامة مجتمع مسالم تعطى فيه الفرصة للجميع بدون استثناء، وبالتالي تحقيق تنمية مستدامة.
أولا : أسباب الفشل التنموي
أضحت إشكالية التنمية بالمغرب من أولى الإشكالات التي تحظى بالنقاش العمومي ، كما توجد في قلب الإشكاليات التي يطرحها النظام التمثيلي سواء في البرلمان أوالمجالس الترابية المنتخبة، بالإضافة إلى إرتباطها بإشكالية الكفاءات في تدبيرالشأن العام العمومي، وما يثيره هذا الموضوع من جدلية، وصراع بين السياسي والإداري/ التكنوقراطي على مستوى التدبير، فقد تم التأكيد رسميا من خلال الخطابات الملكية على فشل النموذج المغربي في التنمية، مما استدعى الأمرتدخل الملك، ووضع الإجراءات اللازمة لمواجهة تأزم الوضع التنموي، وتجاوزأعطاب المسؤول العمومي، وتهاونه في مهامه، وذلك بالدعوة إلى تنصيب لجنة ملكية للنموذج التنموي.
وتبقى أولى أسباب تراجع النموذج التمموي بالمغرب، هو الإختيار السيئ أو الغير الموفق للمواطنين خلال الإنتخابات سواء التشريعية أوالمحلية، ودائما ما يطرح هذا الإشكال، تساؤلات تصب في قدرة المواطن على قراءة البرامج الإنتخابية، وقدرته على التمييز بين المنتخب أوالممثل الصالح والطالح، وهو ما يثير مجموعة من القضايا والآفات المجتمعية، التي لا زالت تنخركيان المجتمع المغربي، من بينها الأمية، المحسوبية، والفساد بنوعيه الإداري والسياسي، والرشوة… وبالتالي تتراجع مصداقية الإختيار للبرامج السياسية أثناء الإنتخابات، مما يحول دون إمكانية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب .
وثاني الأسباب هو الإفلات من العقاب أي عدم تفعيل القانون وما جاء به، منها مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة الذي نص عليه الدستور في فصله الأول، وهنا لا بد من طرح سؤال ملح، ما الحاجة إلى سن القوانين والنصوص التنظيمية؟ وما هو دورها في بناء الدول وتحديثها؟. والهدف العام في كل المجتمعات هو تحقيق أمن قانوني ومجتمعي المفضي إلى فعل وأمن تنموي، ولكن المسؤولية بالمغرب عبارة عن لعبة بيد المسؤولين والمنتخبين، يطعنون في كل هذه القواعد كأنها مجرد حفريات وجدت لتكون فوق الرفوف والمكتبات، وهو ما يشير إليه دائما الملك في كل المناسبات.
ومن بين الأسباب الفشل أيضا، هو طريقة إختيار المدبيرين والمسؤولين العموميين على المؤسسات والمشاريع الكبرى، والتي غالبا ما تقوم هذه العملية بعيدة عن الشفافية، وتدخل فيها المحاباة السياسية، ثم الصداقة والقرابة، وهي من نقائض التدبير العمومي الحديث القائم على الكفاءة، والشفافية، والنزاهة، وأيضا ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ومن الأسباب أيضا نجد ارتفاع كلفة الرواتب، والتعويضات الخيالية لكبار المسؤولين والمدراء والقائمين على المؤسسات العمومية، والوكالات العمومية التنموية وإن كان على حساب الميزانية العامة، إذ لا يعقل أن يتقاضى مدير مؤسسة عمومية أو وكالة عمومية راتب شهري ضخم دون تقديم أي نتيجة أو فعالية تساهم في الرقي بالنموذج التنموي المنشود، بل وحتى في حالة إخلاله بمهامه وإعفائه بسبب ذلك، لا يتم محاسبته، وإنما يتم مكافأته وتعويضه بتقاعد مريح مدى حياته.
وهنا لا يسعني إلا أن أسوق تجربة المملكة المتحدة في التدبير العمومي، خاصة في الجانب المتعلق بالمدبر أو المسؤول عن مؤسسة ما، فأجر المدير يحدد حسب مردوده والنتائج المحققة، إضافة كذلك إلى أن العلاوات المخصصة له قد تصل إلى 25% من أجره السنوي في حالة النجاح في أداء المهام وتحقيق الأهداف، فتعطى للمدير أو المسؤول العمومي صلاحية كاملة في تعيين المستخدمين من أي قطاع سواء كان من القطاع العام أو الخاص، كما تعطى له صلاحية تحديد أجورهم، ونظام ترقيتهم بناءا على الكفاءة والإستحقاق، وليس بناءا على التعقيدات المسطرية والقانونية.
بالإضافة إلى الأسباب السابقة، توجد معظلة تدبيرالصناديق السوداء، أي الحسابات الخصوصية، والميزانيات المتعلقة بالمرافق المسيرة بصورة مستقلة، وميزانيات أخرى لا تدخل في مجال المراقبة العمومية، مما يضيع على الدولة مداخيل هامة قد تساعد على تراجع العجز الدائم في الميزانية العمومية، ليبقى من أهم كل هذه الأسباب، هوغياب قضاء فعال إلى حد ما، لماذا؟ لأن هناك مجموعة من الملفات الموجودة بيد القضاء والتي لا زالت تتآكل في رفوف المحاكم دون أدنى إعتبار للقانون، ولمشاعرالمواطنين، بالرغم من أن الدستور الذي أعلن عنه الملك في سنة 2011 قد وضع قواعد تضبط عمل المؤسسات السياسية والإدارية والضبطية. وقد عملت خطة التنمية المستدامة لسنة 2030 على جعل العدالة أو الحق في العدالة وإمكانية الوصول إليها من عوامل بناء مؤسسات فعالة وخاضعة للمساءلة وشاملة للجميع، وتأمين الثوابت الجامعة للأمة في إطارالإختيارالديمقراطي كما جاء في الفصل الأول من الدستور. والهدف العام هو تحقيق وإنجاح ورش النموذج التنموي الذي دعا إليه.
ثانيا : عوامل إنجاح مهام لجنة النموذج التنموي
أول عوامل إنجاح عمل لجنة النموذج التنموي، هو الإعتراف بوجود إختلالات خطيرة في التدبير العمومي المغربي، وفي التنمية عموما، كما جاء في الخطابات الملك، ثم الإعتراف بوجود مسؤولين هم سبب هذا الفشل مع الإقراروالتأكيد على ضرورة محاسبتهم، وتفعيل دورالقضاء. وكذلك الإعتراف بفداحة الفوارق الإجتماعية والمجالية من طرف المسؤولين عن هذه الوضعية خاصة في المناطق الجبلية والجنوبية…، ثم التفاوت الطبقي الحاد في الدخل، والتعليم، والصحة…
ثاني الإقتراحات، هو التوافق وتحديد صيغة تدبيرية لحل هذه الإختلالات ومعالجتها بشكل فعال، وفوري، بالإعتماد على التجارب المقارنة Benchmarking والرائدة على مستوى التنمية، ومحاربة الفوارق الإجتماعية كسبيل للبناء خاصة في المجتمع الشاب “كالتجربة الماليزية”.
فالإقتصاد الماليزي كان يركز على مواد معينة مما أدى إلى الإختلال الإقتصادي، والإجتماعي، ومع الإستقلال عملت الدولة على معالجة نقاط الضعف الهيكلية في الإقتصاد، وركزت على التنويع الإقتصادي، وتحديث القطاع الزراعي وزيادة إنتاجيته، وتطوير المناطق الريفية من أجل محاربة الفوارق المجالية، والتوسع في إنتاج بدائل للمنتجات الصناعية المستوردة نظرا لضيق السوق المحلية للسلع الإستهلاكية.
وبالرغم من أن هذه السياسات التحديثية أسفرت على تحسين الأوضاع من خلال الإنجازات المتمثلة في تحقيق معدل نمو حقيقي للناتج المحلي الإجمالي بلغ نحو 6%، إلا أن هناك سِجِل سيء على المستوى الإجتماعي من خلال ظاهرة الفقر وعدم تكافؤ الدخل بين المجموعات العرقية (وهو نفس المشكل الذي وقع فيه المغرب حيث فتح أوراشا إقتصادية، وإستثمارات إفريقية كبيرة لكنها لم تعد بالفائدة على المواطن، بحيث كرست عكس ما هو مبرمج ومخطط له من طرف أعلى سلطة في البلاد، ووسعت في الفوارق الإجتماعية الموجودة أصلا)، مما حدى بالسياسة الماليزية أن تتوجه ليس في إتجاه إستمرارتحقيق معدلات نمو مرتفعة دون إعتبار للمشاكل الإجتماعية، بل إتجهت وأخذت بعين الإعتبارالتوزيع العادل للثروة، لتكريس مفهوم النمو المتوازن على أرض الواقع، وجعل المواطن الماليزي محورعملية التنمية.
ومن الإقتراحات، أيضا تفعيل القانون المتعلق بالتصريح الإجباري للممتلكات حيث يمكن للمدبرين أو القائمين على هذه اللجنة، وكل مكوناتها بالتصريح بالأملاك وكل ممتلكاتهم المادية والمنقولة مع نشره في المكان أوالفضاء القانوني المخصص لذلك، ومن عوامل النجاح أيضا هو محاسبة كل مسؤول عن هذه النتائج والإختلالات السيئة، وتقديمهم إلى العدالة ومحاكمتهم حتى يكونوا عبرة لكل مسؤول فاسد، مع إلزامهم بإرجاع كل الأموال المنهوبة.
في نظري هذه اللجنة إذا تمت صياغتها وتدبيرها بالطريقة التقليدية المعتادة لدى المدبرالمغربي فإنها ستفشل حتما، لأن التجارب السابقة خاصة في مجال التنمية (وكالات التنمية) أثبتت عجزها عن مواكبة مطالب، وحاجيات المواطنين لأن من يقوم بتدبيرهذه اللجان أو الوكالات، أو البرامج التنموية هو نفسه المشرف على جميع تنفيذ المشاريع، وبالتالي فإن هذه الجهة التي أعطاها الملك الثقة الكاملة قد إستنفذت جميع الحلول وأصبحت عاجزة عن الإبداع والإبتكار.
الحل ليس هو إختيار أشخاص لهم تجارب إدارية وسياسية فقط، أو قد يكونون أطر في إدارات أخرى، أو لهم شهادات من الخارج، بل يجب البحث عن أطر وخبرات شابة لها الحماسة والوطنية والإستعداد بما يكفي لخدمة هذا الوطن، وخدمة المواطن. فكم من خبرات تم تعيينها في مؤسسات وإدارات ووكالات عمومية على أشكال مختلفة، ولجان تنموية سابقة بدعوى مواكبة النموذج التنموي لمطالب المواطن، واكتشاف مكامن الخلل، وتقديم الحلول، ولكن بدون جدوى، لأن ما يحرك هذه الأطر والخبرات هي الرغبة الذاتية أو تنمية الحساب البنكي، أو خدمة أجندة معينة هو تابع لها.
من الحلول أيضا، ومن خلال التجارب السابقة هو عدم إختيار شخصيات منتمية سياسيا أوليست لها علاقة مع منظمات او كثل سياسية كيفما كان شكلها وتوجهها لأنها لا تعمل بلهف على تطوير الوطن وخدمة المواطن من خلال التجارب السابقة، بل هدفها هو خدمة المفكرة السياسية لذاك الحزب الذي ينتمي إليه، أو جماعة أخرى، وبالتالي خدمة توجهاته الذاتية وتوجه أعضائه.
ويجب كذلك منع المحاصصة الحزبية في تكوين هذه اللجنة بالرغم من وجود كفاءات وأطر ذات خبرات تدبيرية حزبية بسبب إنتماء وإيديولوجية هذه الخبرات أوغيرها، وقد يتم التخلي عن أهداف وخطط اللجنة في حالة مواجهة سياسية خاصة مع الحكومة أو حزب معين في شكل انتقام كما حدث مرارا وتكرارا (البلوكاج).
كذلك من الحلول هو إعطاء الحرية الذاتية والكاملة للمدبر منذ لحظة تعيينه على رأس اللجنة للقيام بمهامه دون تعليمات أو توصيات من جهة ادارية أو سياسية حتى يعمل انطلاقا من تجاربه، ويستغلها في اختيار الأشخاص المناسبين للعمل في تطويرآليات عمل اللجنة وخدمة المصلحة العامة، ثم العمل على تحديد الآليات التدبيرية المناسبة للقيام بالمهمة بالشكل الصحيح، ثم تمكينه من الموارد اللازمة خاصة المالية.
والأهم في هذه اللجنة هو إستقلاليتها المالية والبشرية عن باقي القطاعات الحكومية الأخرى حتى لا تكون هناك علاقات تربط اللجنة بمؤسسات او إدارات أخرى خارج نطاق عملها حتى لا يتم ربطها او تقييدها باستراتيجيات المؤسسات الأخرى التي لا تربطها أية علاقة بخدمة المصلحة العامة او ذلك الهدف الذي أنشأت من أجله هذه اللجنة وتبقى في تبعية دائمة لخططها، وحتى يكون لأدائها وعملها فعالية في معزل عن مكون أو عنصر آخر لا يدخل في إستراتيجية عملها، وحتى تكون هناك سهولة في محاسبتها، وتقديم الحصيلة أو النتائج.
وتندرج كذلك في إطار الحلول إختيارالمدبر أوأعضاء اللجنة المعنية بالتنمية عن طريق المباراة والتنافس الشريف، وهو السبيل الوحيد للتقدم او لإختيار المدبرأو الموارد البشرية اللازمة لخدمة المصلحة العامة، ويتم ذلك عبر وضع الملفات الشخصية لدى لجنة خاصة ومحايدة وسرية يتم تعيينها من طرف الملك، وتكون مهمتها تفحص ملفات المترشحين والبحث عن الخبرات المناسبة لهذا الغرض، ثم الإنجازات السابقة وفحص البرامج أو خطة عمل كل مترشح أو مدبر والتي على أساسها تقدم ملفات الترشيح، ويتم كذلك فحص فريق العمل في حالة ما اذا تقدم به أحد المترشحين. وأخيرا مقابلات شخصية وتقييمية تؤطَّر من طرف شخصيات تدبيرية معروفة بالكفاءة والحياد والنزاهة، وعليها إجماع وطني، ويستحسن ان تكون هناك مواجهة أومناظرة بين المترشحين.
ويجب أن يتم ربط صرف الرواتب، والمكافئات والتعويضات المخصصة للموظفين أوالمتعاقدين أو المدبرين بما يقدمونه أي حسب النتيجة والإستحقاق والعمل، فحسب التجربة البريطانية فإن ربط صرف المستحقات وخاصة الراتب يتم ربطه بما يقدمه هؤلاء وليس بحسب إنتمائهم الشخصي والحزبي وحتى تكوينهم أي الشهادات الخارجية.
وأخيرا من خلال التجارب السابقة يجب مراعاة الخصائص الجغرافية لكل جهة من خلال اختيار الشخص المناسب لتلك المهمة، وذلك بواسطة تعيين اشخاص ينتمون لنفس المجال الترابي، ثم مراعاة الشهادات والتكوينات التي تناسب تلك المهمة، مع مراعاة الكفاءة المهنية الميدانية حسب المنطقة وتناسبها مع ذلك المجال الجغرافي (القابلية للمجال الجغرافي).
وأخيرا ، وأتمنى أن يقوم الملك شخصيا بالإشراف على عملية الإختيار، وأن لا تكون عملية الإختيار عن طريق السيرة الذاتية التي تكذب أحيانا باستثناء بعض الأطر التي تتوفرعلى سجل مشرف في المجال التنموي أي حقق أرقاما ومشاريع واقعية لها وقع على الساكنة وباعتراف منها (هناك مجموعة من الأطر في الإدارة الترابية خاصة الولاة والعمال التي أظهرت كفاءتها في تدبير الشأن العام الوطني).
ويستحب كذلك أن لا يتم الإعتماد على الطريقة التقليدية التي تكون الأحزاب طرفا فيها من خلال تقديمها لأشخاص يكونون أحيانا غير قادرين على مواكبة المهمة، أو تقديم إضافات نحن في حاجة إليها، أو حتى من القطاعات الوزارية الأخرى أو أشخاص معينين دون مراعاة إنجازاتهم ومسيرتهم السابقة.
* باحث في العلوم السياسية والقانون العام
جامعة محمد الخامس- الرباط