وقفات مع الجابري الحلقة الثانية

الوطن24/ بقلم: محمد الهداج 

وأنا أقرأ كتابا لمفكر أمريكي يدعى جوليان يونغ عن فلسفة هايدجر المتأخرة استوقفتني عبارة عجيبة مناسبة لما كنا فيه من حديث عن الراحل الكبير محمد عابد الجابري رحمه الله، يقول يونغ في إحالة في الصفحة 14 “في عالم ينقصه الكمال لا يبعد أن تجد العبقرية تمضي يدا بيد مع مسحة من شعوذة”.

لا شك أن الجابري رحمه الله “استنكف” أو “تكاسل” أو “استصغر” الإحالة إلى بعض مراجعه التي لم يطلع عليها إلا عبر “واسطة” أو مرجع ثان فيذكر أنه اطلع على الأصل مدلسا تدليسا يكاد يشبه عند أهل الحديث تدليس الإسناد، ولكنه ليس بسوئه  لأن النص في العادة موجود في مصدره، لكن قد يوقع صاحبه في المشاكل كما وقع لمفكرنا الكبير عندا أدرج في الاقتباس كلام الوسيط بينه وبين النص الأصلي، كما أنه اتُّهم بالسرقة وباب السرقة باب يصعب ولوجه والخروج منه كذلك، فقد يقع أن تُعجَبَ بالفكرة ثم تنسى مصدرها كما قد يحصل أن تصنع من أجزاء كلا ليس هو أي واحد من الأجزاء التي رُكِّب منها، وقد فعل فيلسوفنا هذا بجمعه أفكارا من مفكرين كثُر مستخرجا منها عملا أطلق عليه “نقد العقل العربي” وهذا العمل له وله وحده. وكما قلت سابقا فإن عبقرية الرجل كانت في قدرته على بسط القول وتبسيطه وتقريبه للقارئ العربي وكانت “شعوذته” في قدرته على إيهام القارئ بأن المسطور في الصفحات هو تنزيل من العقل المطلق للقارئ الحيران. وحقيقة لا أدري كيف استطاع كل هذه العقود أن يفلت بكل تناقضاته تلك ويجعل من مفردات خطابه من جزر ثقافية وأنظمة معرفية إلى قبيلة وغنيمة قوتا يتغذى عليه الكثيرون حتى اليوم.

مشكلة الجابري ليست في أنه سرق أو أنه لم يحِل على مراجعه بالنزاهة المطلوبة، ولكن في المنهج والتناول، فقد بنى خطابا متهافتا أوهم القراء لعقود بتماسكه

كان يحتقر الاستعارة والمجاز وبنيانه الفكري كله قائم عليهما.

قال بأن الفكر العربي القديم والحديث محكوم ببنية قاهرة يُطلق عليه “النموذج/ السلف”، يقول: “…وإذن فعندما نتحدث عن بنية العقل العربي فإننا نقصد أساسا هذه المفاهيم والأنشطة الفكرية التي تزود بها الثقافة العربية المنتمين إليها والتي تشكل لديهم اللاشعور المعرفي الذي يوجه، بكيفية لاشعورية، رؤاهم الفكرية والأخلاقية ونظرتهم إلى أنفسهم وغيرهم.” (تكوين العقل العربي: المركز الثقافي العربي الطبعة الرابعة 1991 ص41) أي أنه يُقر بأنها تشتغل على مستوى اللاوعي، لكن ما لا يقوله وهو الأهم: كيف استطاع هو الانسلال من هذه البنية التي تشتغل بالنص من كلامه لا شعوريا؟، من أي موقع يتكلم فيلسوفنا في كتاباته؟. وكيف يتسق القول باللاشعور المعرفي مع ادعاء القدرة على إدراك الواقع بموضوعية، يقول رحمه الله: إن خطابنا هنا لن يكون خطاب دعوة، ولا خطابا مضادا لأية دعوة. إنه خطاب ينشد التعبير عن الحقيقة كما تبدت لنا من خلال موقف حيادي وموضوعي من الوقائع. (مدخل إلى القرآن الكريم ج 1 دار النشر المغربية 2006. ص 18.)

لكن هل الجابري فعلا لا يعي كل تلك التناقضات ولم ينتبه إلى ذلك القدر المهول من “البيانية” في خطابه، وهو الذي ينصحنا بتبيئة مفاهيم الحداثة واستنباتها في أرضنا أي يقدم خلاصته الكبرى بلغة الاستعارة “التافهة”.؟