قراءة في قانون التنظيم القضائي الجديد على ضوء مذكرة نادي قضاة المغرب

الوطن 24/ *محمد مهنا

كان التحكيم أساس الفض في المنازعات ما بين الشعوب والمجتمعات القبلية، وكان المحكم يلتمس الحل في العرف أو العادة، قبل أن نعرف ما يسمى بمجلس الحل والعقد الذي أصبح ملاذ المتخاصمين، وكانت مبادئ العادلة و التقوى أساس القضاء بعد مجيئ الإسلام .

وبعد ظهور الدولة أصبح التحكيم إجباريا، ثم بدأ التطور يسير إتجاه قيام الدولة بمهمة الفصل في المنازعات من خلال قضاة يعهد إليهم تمثيل الدولة من خلال إحدى سلطاتها وهي السلطة القضائية .

وكان القضاء في المغرب شرعيا يستند إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل من فقه مالك. وعرف الوضع القضائي أثناء الحماية تعدد أنواع المحاكم – المحاكم الشرعية، المحاكم الإسرائيلية، المحاكم العرفية والمحاكم الفرنسية – وبعد حصول المغرب على الإستقلال أدخلت عدة تعديلا على التنظيم القضائي مسايرة للتطور الذي عرفه البلد وأصبحنا نتحدث عن وحدة القضاء بموجب ظهير 1974 الذي قام على مجموعة من المبادئ وشهد العديد من محطات التعديل إلى أن وصلنا إلى القانون 15-38 المتعلق بالتنظيم القضائي الذي جاء في سياق إعادة تنظيم مشهد العدالة ببلادنا بعد تحقيق الإستقلال المؤسساتي للسلطة القضائية ونقل رئاسة النيابة العامة من وزير العدل إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض .

هذا القانون له أهميته وراهنيته، خاصة وأن هذا الأخير قطب رحى عمل المحاكم، لكونه يتناول المبادئ العامة للتنظيم القضائي وتحديده لحقوق وواجبات المتقاضين ولهياكل وقواعد سير المحاكم، فقد سعت وزارة العدل إلى القيام بمراجعة شاملة له، من خلال تجميع النصوص القانونية المتفرقة في قوانين مستقلة كقانون قضاء القرب، وقانوني المحاكم الإدارية والمحاكم التجارية، وبعض المقتضيات المنصوص عليها في قانوني المسطرة الجنائية والمسطرة المدنية، فيما يمكن أن نسميه مدونة مصغرة للقانون القضائي الخاص.

ويعتبر القضاة من بين أهم المخاطبين بأحكام وقواعد قانون التنظيم القضائي وتتقاطع مبادئه مع القانونين المتعلقين بالنظام الأساسي للقضاة و قانون المجلس الأعلى للسلطة القضائية.

ومن هذا المنطلق تطرح إشكالية محورية مفادها: إلى أي حد إستطاع المشرع إحترام مبدأ إستقلال القضاء من خلال القواعد الناظمة لعمل الهيئات القضائية ومنظومة تدبير المحاكم وتنظيمها الداخلي؟

لتناول هذه الإشكاليات ارتأينا تقسيم الموضوع إلى محورين أساسيين:
أولا: مكانة القضاة على ضوء القواعد الناظمة لعمل الهيئات القضائية ومنظومة تدبير المحاكم
ثانيا: الإشكاليات القانونية والعملية المرتبطة بمكانة القضاة على ضوء التنظيم الداخلي للمحاكم
لم يتطرق قانون التنظيم القضائي لوضعية القضاة بصفة مباشرة بإعتبار أن لها حقلا خاصا وهو النظام الأساسي للقضاة، لكنه أشار بصفة غير مباشرة لمكانة القضاة من خلال تعرضه لتنظيم المحاكم ومبادئ التنظيم القضائي وقواعد عمل الهيئات القضائية .

أولا- مكانة القضاة على ضوء القواعد الناظمة لعمل الهيئات القضائية ومنظومة تدبير المحاكم
يقوم التنظيم القضائي بالمغرب على غرار القوانين المقارنة على عدة مبادئ أساسية لعل أهمها مبدأ إستقلالية القضاء.

ويقصد بمبدأ استقلالية السلطة القضائية أن تتمتع هذه السلطة بالإستقلال عن الهيئات الدستورية الأخرى والسلط التي نص عليها الدستور، وكذا عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، ويراد بهذا المبدأ أيضا تمتع القضاة كأفراد موكول إليهم أمر البت في الملفات التي تعرض عليهم بنوع من الحياد والإستقلال وعدم التأثر أو الخضوع لأي جهة كيفما كانت.

وأكد قانون التنظيم القضائي من خلال المادة 4 بدوره على هذا المبدأ انسجاما مع الفصل107 من دستور المملكة لسنة 2011 الذي جاء به أن “السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية..”، وقد تم تعزيز هذه الإستقلالية بإعادة تسمية المجلس الأعلى للسلطة القضائية وتوسيع إختصاصاته واستثناء وزير العدل من رئاسته مما عزز الإستقلال الشخصي للقضاة، و يبقى جلالة الملك الضامن لهذه الإستقلالية .

وقواعد التنظيم القضائي وقبل كل شيء هي ملاذ القاضي الأول والأخير لتدبير مساحة اشتغاله بإستقلال تام عن أي سلطة غير قضائية.

وبرجوعنا إلى قانون التنظيم القضائي 15-38 في الباب المتعلق بتدبير محاكم أول درجة وثاني درجة يبدو جليا تصدر الوزارة المكلفة بالعدل الإشراف الإداري والمالي للمحاكم ولا يرجع للمسؤول القضائي إلا للإستشارة والتنسيق معه، كما لو كان القاضي قاصرا أو عاجزا عن تدبير المحكمة من الناحية الإدارية والمالية والحال أنه لا يمكن الحديث عن إستقلال حقيقي للسلطة القضائية والحالة هذه، اذ و لو كان عمل الكاتب العام تحث إشراف المسؤول القضائي، فالإقرار القانوني له بسلطة القرار يجعله المسير الفعلي للمحكمة ولا تعدو أن تكون تلك الصياغة التشريعة إلا من باب تأثيت النص ورد الإعتبار الأدبي للمسؤولين القضائيين في غياب الجزاء القانوني للإخلال بهذا الإشراف المعترف به بموجب هذا القانون، اذا علمنا أن عمل كتابة الضبط فضلا على أنه إداري يتخلله ما هو قضائي بإعتبارها المنفذ لقرارات السلطة القضائية، مما يضرب في عمق مفهوم إستقلالية القرار القضائي ومن تم إستقلالية السلطة القضائية بصفة عامة إضافة إلى كون كثرة المتدخلين في منظومة تدبير المحاكم فنجد المشرع يتحدث عن رئيس المحكمة، الرئيس الأول، الوكيل العام، وكيل الملك، الكاتب العام وغيرهم مما يجعل الرؤية غير واضحة بخصوص حدود إختصاصات كل متدخل.

ونجد القانون يتحدث في المادة 7 منه على كون المحاكم تمارس أعمالها تحت إشراف مسؤوليها، بما يؤمن إنتظام وإستمرار الخدمات القضائية وعقد الجلسات…، هذه الصياغة التشريعية حمالة أوجه ويمكن أن تجعلا لمسؤول القضائي يتجاوز صلاحيات الجمعية العامة ويتدخل بذريعة تأمين سير الجلسات وإسمرارية الخدمات القضائية وغيرها بتغيير قاض بآخر أو التدخل في تدبير وضعية الملفات وتواريخ إدراجها……

وأشارت المادة 17 من القانون إلى أن قضاة النيابة العامة لا يحضرون مداولات قضاة الأحكام، فهل المقصود هنا قضاة النيابة العامة بمحاكم الموضوع أو جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم المحامون العامون لدى محكمة النقض .

وتؤكد المادة 20 من القانونعلى أن القضاة يرتدون البدلة المحددة بقرار للرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية أثناء الجلسات فقط، فهل المقصود هنا الجلسات العلنية وكذا جلسات الأبحاث والجلسات السرية، أو جلسات الإستنطاق التي يعقدها نواب وكيل الملك أو الوكيل العام أو قضاة التحقيق، أو جلسات المعاينات التي يضطر فيها القاضي المقرر للخروج لمعاينة عقار في إطار المسطرة القضائية للعقار في طور التحفيظ أو معاينة مظاهر الحيازة و الإعتداء عليها في إطار جنحة إنتزاع عقار ………

ومسألة توثيق الرأي المخالف الذي أكدت عليه المادة 16 من القانون وأن كانت في حد ذاتها ثورة تشريعية، وتنزيلا لمقتضى مقارن – النظام الانجلوسكسوني – فان وأده في خزانة رئيس المحكمة يجعل اقراره من عدمه سواء، وقد يكون هاجس التفتيش القضائي في حالة تقديم شكاية هو حدى بالمشرع إلى إقرار هكذا مقتضى .

ثانيا: الإشكاليات القانونية والعملية المرتبطة بمكانة القضاة على ضوء التنظيم الداخلي للمحاكم
من خلال الإطلاع على قانون التنظيم القضائي في بابه المتعلق بالتنظيم الداخلي للمحاكم يظهر جليا إحداث مؤسسة مكتب للمحكمة بعضوية كل من المسؤولين القضائيين ونائب الرئيس واقدم القضاة وأصغرهم سنا ورؤساء القسام و النائب الأول لوكيل الملك و الكاتب العام للمحكمة، وأصبحت له صلاحية إعداد مشروع عمل المحكمة قبل عرضه على الجمعية العامة للمصادقة عليه، فأصبحت بذلك الجمعية العامة مجرد آلية للمصادقة على مشروع معد سلفا من قبل مكتب المحكمة .

كما يعد حصر الدعوة لإنعقاد الجمعية العامة على المسؤول القضائي وحرمان القضاة من ذلك ضربا لحق القضاة في تدبير وضعيتهم القضائية، علما أن الواقع العملي ابان أنه اذا عاق رئيس المحكمة عائق من الدعوة للجمعية العامة فان نائبه يتولى هذه المهمة .

ولم تلزم المادة 29 من القانون كل مسؤول قضائي وقبل إجتماع مكتب المحكمة بإستطلاع آراء القضاة بشأن توزيع القضايا وتحديد رؤساء الغرف والأقسام داخل المحكمة .

وعدم وجود جزاءات لعدم حضور إجتماع الجمعية العامة من طرف القضاة يطرح بدوره اشكال النصاب المقرر بموجب مقتضيات المادة 32 التي أشارت إلى كون الجمعية العامة تنعقد بحضور أكثر من نصف أعضائها وفي حالة عدم إكتمال النصاب القانوني يؤجل الإجتماع الذي ينعقد في أول أيام العمل، وفي هذه الحالة يعتبر الإجتماع صحيحا بحضور ثلث الأعضاء على الأقل الإ أن هذه المادة لم تخبرنا عن الحل القانوني في حالة عدم إكتمال نصاب الثلث .

ويثور التساؤل حول عدم التنصيص على توقيع وكيل الملك على محضر مشروع مكتب المحكمة ومحضر الجمعية العمومية إلى جانب رئيس المحكمة والكاتب العام خاصة وانه يتداول مع أعضاء مكتب المحكمة حول توزيع الإختصاصات وتقسيم السلط بين القضاة داخل شعب واقسام المحكمة .

بقي أن أشير إلى أن مسألة إستماع المفتشية العامة لوزارة العدل للمسؤولين القضائيين في الإخلالات التي يمكن أن تنسب لموظفي كتابة الضبط فيه مساس بإستقلالية السلطة القضائية إذا علمنا أن القانون أشار إلى أنه إذا كانت ضرورة البحث تقتضي الإستماع إلى قاض فتتولى المفتشية العامة للشؤون القضائية هذه المهمة، فلماذا استثناء المسؤولين القضائيين بمختلف درجات المحاكم من هذا المقتضى؟

وعليه فإن قواعد التنظيم القضائي في الأصل يجب أن ترقى بسلطة القضاء إلى ما أريد لها دستوريا بتجاوزها كل ما يمكن أن يمس بإستقلاليته وتجرده وهذا ربما ما جعل الحكومة تحيل هذا القانون على المحكمة الدستورية ……

* عضو نادي قضاة المغرب