أنثروبولوجيا المغرب الواحي: دراسة في التفاعل الإنساني مع البيئة والمجتمع.

الوطن24/ بلمو محمد
صدر حديثاً عن دار مقاربات للنشر بفاس الكتاب الجماعي “أنثروبولوجيا المغرب الواحي: قضايا وتأويلات”، وهو عمل يعكس الجهد الأكاديمي المستمر في استكشاف التنوع الاجتماعي والبيئي للمغرب. جاء الكتاب ضمن إصدارات مركز ابن خلدون لدراسات الهجرة والمواطنة التابع لجامعة الأخوين بإفران، وشارك فيه باحثون من مختلف التخصصات، منهم علماء اجتماع وأنثروبولوجيا وجغرافيا، بالإضافة إلى مختصين في الدراسات الثقافية.
يتناول الكتاب دراسة الواحات المغربية باعتبارها نموذجًا فريدًا لدراسة تفاعل العوامل البيئية والاجتماعية. من خلال 200 صفحة محكمة، تتنقل الأبحاث الميدانية بين مناطق الواحات المغربية المختلفة، مثل تافيلالت، درعة، فكيك، والأطلس الصغير، لتسلط الضوء على علاقة الإنسان بمحيطه الطبيعي القاسي. الكتاب لا يتوقف عند حدود الوصف الجغرافي أو الاجتماعي، بل يتناول الواحة كنظام اجتماعي وثقافي معقد. ففي مناطق مثل الواحات المغربية، تُعتبر أنظمة الري التقليدية مثل “الخطارات” أكثر من مجرد تقنيات هندسية؛ هي بمثابة عقد اجتماعي ينظم توزيع المياه ويؤسس لقواعد التعاون والصراع داخل المجتمعات.
هذا الكتاب يعكس رغبة واضحة في تجاوز النظرة السطحية للمجتمعات الواحية، ويقدمها كمساحات حية للتفاعل بين الإنسان والطبيعة. فليس من المستغرب أن تتداخل الممارسات الثقافية والدينية، مثل الطقوس المحلية والأعراف الاجتماعية المتعلقة بالماء، مع البناء الاجتماعي والاقتصادي للواحات. من الزراعة إلى العمارة الطينية، ومن التراث الثقافي إلى الاقتصاد الموازي، يقدم الكتاب صورة بانورامية عن الواحات المغربية، ليست كمجرد فضاءات أثرية، بل كمجتمعات حية تُصارع من أجل البقاء في عالم متغير.
إحدى القضايا الجوهرية التي يعالجها الكتاب هي كيفية تأصيل الهوية الثقافية في هذه الفضاءات البيئية الهشة. ففي كل واحة، يتجسد نوع من الحكايات الإنسانية التي تتراوح بين الصراع من أجل البقاء والتكيف مع التحديات البيئية، وبين البحث عن هوية مستمرة في مواجهة التحولات الاجتماعية والاقتصادية. كما يشير الكتاب إلى أن الواحات ليست مجرد مستودعات للذاكرة الثقافية، بل هي مختبرات للإبداع المستقبلي. في واقعها اليومي، تقدم دروسًا في الاستدامة والتضامن، ما يجعلها نموذجًا يُحتذى به في التعاون بين أفراد المجتمع.
في النهاية، يقدم الكتاب دعوة لاستبدال نظرة الشفقة تجاه هذه المجتمعات بنظرة احترام وتقدير. فساكنة الواحات لا يحتاجون إلى وصاية أو مساعدة فقط، بل هم شركاء في بناء وطنٍ يستحق أن يكون قادرًا على احتضان تنوعه الثقافي والجغرافي. الكتاب يُعد خطوةً جديدة في إعادة الاعتبار للأطراف المهمشة، ويوفر فرصة لفهم أعمق للواقع المغربي بعيدًا عن السرديات الأحادية.
إضافةً إلى ذلك، يُعتبر هذا الكتاب بمثابة تأكيد على أن الأنثروبولوجيا ليست ترفًا فكريًا، بل أداة مهمة لفهم وتعميق مفهوم المواطنة في المغرب. إن هذه الدراسات تقدم مقترحات جديدة حول كيفية دمج الهامش في مركز التفكير الوطني، وتُعيد رسم علاقة الدولة مع مكونات المجتمع المختلفة في إطار من التفاعل المستدام والمتوازن.
إذن، ليس فقط الواحات المغربية تُحفظ كتراث، بل هي قِيم إنسانية حية تحتاج إلى أن تُقرأ وتُفهم بتعمق، بعيدًا عن النظرات التقليدية.
